كان صديقى غاضبا مما يقرأه من تعليقات قراء أحد المواقع العربية الشهيرة، التى يرى أنها تمس مصر وتهين المصريين، ماذا لو علم صديقى بما اسمعه هنا ليل نهار عن مصر والمصريين، منذ رحلتى فى الطائرة لم يكف الناس عن تحذيرى من التعامل مع بنى وطنى، الأغرب أن كل التحذيرات كانت تأتى من مصريين مثلهم مثلى ومثل المصريين موضع التحذير.
هنا فى سوق العمل لا يفضل الناس توظيف المصريين، يصفون لك ما يضايقهم من سلوكيات أنت تعرفها جيدا.. عايشتها طيلة الوقت فى مصر، تضايقك أنت أيضا وتمارسها أحيانا، هى ما نسميه "الفهلوة" و التى يبدو أنها متوارثة فى جينات المصريين، لطيفة ودمها خفيف، لكنها لم تعد مقبولة فى العالم الذى يتغير، لم أحك لصديقى كل الذى سمعته، وأهاننى وجرحنى وما جرحنى أكثر هو أننى أعلم انه صحيح.
قلت له إن المصريين فقراء، وإن العالم لا يحب الفقراء، قلت له أيضا إن حكوماتنا دأبت منذ سنوات طوال فى أن تمارس دورها كأم معيلة "تشحت" على أولادها، سربت للعالم هذا الإحساس، وسربته لنا أيضا، صار المصرى يهرب للخليج باحثا عن لقمة عيش، حتى ولو كانت مغموسة فى ذل الحاجة والأكثر من ذل الحاجة ذل احتقار الذات. وهكذا لسنوات تكونت صورتنا الذهنية لدى العالم ولدى أنفسنا.
المصريون فقراء، كان العالم يحبهم حين كان للفقراء سحرهم، فى الحقيقة كنت أعتقد لوقت طويل أن الفقراء هم جوهرة العالم لا ملحه، هم وحدهم يعرفون سر الحياة وبإمكانهم أن يكونوا مبدعين، خرج من بينهم نجيب محفوظ وأم كلثوم وعبدالحليم، لم يستجد الفقراء من العالم عيشهم، لكنهم منحوا العالم سحره. كانت هذه هى مصر فيما مضى.
المشكلة أن العالم صار يكره الفقراء ويتمنى لو يتخلص منهم ببساطة، حتى أن ما تصوره أحمد فؤاد نجم من قبيل الفانتزيا ذات يوم وهو يقول فى إحدى قصائده "وأنا رأيى نحلها ربانى ونموت كل الجعانين" صارت هى فلسفة العالم.. العالم صار قاسيا يبخل على فقرائه
بحفنة ذرة أو كيلة أرز، ويفضل أن يصنع منها وقودا حيويا يطعم ماكينات المصانع.
لم يعد أحد يحب الفقراء فى عالمنا ولا حتى الفقراء أنفسهم، لذا فقد تراجعت مصر كثيرا، لم يعد لها ذلك السحر فى قلوب العالم، دعك من أنتيكات المتحف المصرى وعظمة المسلات وضخامة الأهرامات، فمصر الآن هى طفل يستجدى السياح تحت هضبة الهرم.
الفقر ليس جميلا على الإطلاق، دعك من بشارة واكيم و"لو كنت غنى" فالحاجة والعوز مذلة حقيقية، لكن كان الجميل هو نبل الفقراء، دأبهم نحو حياة أجمل وأفضل، إصرارهم على ألا يكونوا عبيدا تحت الأقدام، هذا ما كانوا يفعلونه دائما، الإمساك بجمرة الحياة حتى فى أحلك الظروف حتى النفاذ إلى النور، ما حدث أنه لم يعد أحد يرى أفقا ولا نورا فى نهاية النفق، ولم نعد نمنح العالم ما اعتدنا أن نمنحه من سحر الإبداع، صارت الدولة تروج لنا فى إعلاناتها السياحية بوصفنا راقصات، وفى خطابها السياسى بوصفنا أقرب للخادمات الفيليبينيات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة