هل بالفعل جف مداد هذا القلم وطويت صفحته؟
هل خمدت أنفاس لطالما اهتمت بذات الإنسان وصحته القيمية وهويته؟
هل غاب إلى الأبد صوت لطالما غمّه استيراد المصطلح؟
هل كانت "إن مصرنا العزيزة فى خطر" هى بالفعل آخر صرخاته وتصريحاته؟
هل بالفعل لن يجمعنا به ثانية فى بيته "صالون" ولن تصافح أعيننا له صورة ولا صوت حى فى محاضرة أو مؤتمر؟
أسئلة كثيرة إجاباتها مُرة تنطق بـ"نعم".. أسئلة كثيرة تستنكر وإجابات ترسلها صور جنازة.. وصلاة.. وعزاء.. وتشييع إلى مثوى أخير.
كان المسيرى جنرالاً حقيقياً فى جيش "افتراضى" ضد الكيان الصهيونى.. تجد ذلك جلياً فى "من اليهودى" و"البرتوكولات واليهودية والصهيونية", "فى الخطاب والمصطلح الصهيونى", "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" ذات المجلدات السبعة.
ولم يمنع ذلك كله الجنرال من أن يكون "تجربة إنسانية" مفعمة وثرية بإمكاناتها العاطفية والفكرية، فتجد له أيضاً "رحلتى الفكرية فى البذور والجذور والثمار"، التى لن تجد فيها المسيرى وإنما ستجد نفسك كإنسان وبهذا تميزت حتى كتاباته عن سيرته، فلم تأت تقليدية كالمنتشر والمشهور.
والمسيرى كان "الزوج" و"الأب" و"الجد" الذى عاش أدواره جميعها بالعمق ذاته.. فحبه لزوجته وشريكة الكفاح د. هدى حجازى كان إحدى قصائده الشعرية التى كانت أبياتها الدعم والمساندة والحنو، فكان بيتهما نموذجاً لعالمين ناجحين أسرياً ومهنياً.. فهو لم يكن يعتقد أبداًً أن الدور المقدس للزوج أو الأب هو قهر رعيته والبطش بهم.. أو قتل أحلامهم وشخصياتهم أو حتى مقايضة ذلك لصالح تحقيق مصالحه الشخصية..
ولادة ابنته "نور" وابنه "ياسر" كانت بمثابة الشرارة التى أطلقت بعداً إبداعياً إضافياً للعالم الموسوعى الذى شرع حينها وبالتحديد فى السبعينيات فى تأليف سلسلة قصصية للأطفال العرب تغنيهم عن توم وجيرى، حيث الانتصار للأقوى وليس الأقيم, وباربى التى كان يراها مخلوقة باردة، لا تشبه بنات وطنه.. وإنما "إنتاج استهلاكى" لا ينقل قيمة لا شرقية ولا غربية و مثال سيئ للنحافة الزائدة التى صار الولع بها مرضاً نفسياً تعانى منه المراهقات الـ"أنوراكسيا".. اخترع المسيرى الأب شخصية الجمل ظريف والطفلة "نور" أبطالاً لقصصه الواقعية والخيالية فى آن واحد.. فقد تعمد أن تكون كلاسيكية ومعاصرة.. تربط الراوى بالطفل وتعطى الطفل إرادة.. وقد رافق ظريف نور حتى التحقت بدراستها بالجامعة فى إنجلترا وتخرجت وعملت بمجال الصحافة!
واستمرت السلسلة القصصية "حكايات هذا الزمان".. حتى مجئ "نديم" حفيد المسيرى، لتتطور الحكايات أكثر.. وأكثر وتفوز أيضاً بجائزة سوزان مبارك لأدب الطفل فى مصر قبل أن ينتهى عام 1999 بأيام قليلة.
لم يهتم المسيرى بأسرته اهتمام الزوج والأب العادى، بل طال اهتمامه الجدران فأضفى عليها.. وعلى أثاث بيته من روحه وأفكاره ورؤاه.. كان متوائماً مع ما يؤمن به غير منفصم ولا منفصل، فالبيت لدى المسيرى ليس أمراً محايداً أو بريئاً وإنما يجسد رؤية للكون تؤثر فى سلوك مَن يعيش فيه شاء أم أبى.. وهكذا كانت رؤيته للأشياء.. كل الأشياء.. إنها وكما يقول "تؤثر فى وجداننا وتعيد صياغة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم"!
كان المسيرى مهتماً ومغتماً فى آن، لاختزال الأنثى فى بعد واحد وهو "جسدها" من خلال ما يعرض فى الفيديو كليب فيما سماه بـ"الرقص الأفقى".. يقول "لنقارن "كدهه" التى تقولها سعاد حسنى بـ"كده" التى تقولها روبى بجسدها، "فكدهه التى قالتها سعاد حسنى كانت عبارة عن إعلان استقلال الفتاة المصرية ورفضها أن تكون كائناً سلبياً فى علاقتها بالرجل الذى تحبه.. أما كده روبى فشئ آخر لا يخلو من الإيماءات الجنسية فحسب".
عندما تم اختياره ليكون منسقاً عاماً للحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" فى العام 2004.. أشفقنا عليه كما أشفق كل من يعرف عنه طبيعة شخصيته الوديعة المسالمة التى لا تميل إلى الخصومة والمشاكسة.. ولكننا ربما لم نكن ندرك وجود ترسانة قوية بداخله لديها القدرة على أداء المهمة بثبات واقتدار.. فى حين استبشر البعض الآخر خيراً بتوليه زمام حركة كهذه، ربما بموسوعيته الفذة يستطيع أن يقودها إلى بر السلام.
امتلأت حياة المسيرى ومسيرته بصدمات وتحديات غالبها وغلبها بصموده وعناده.. ومع ذلك كله لم يخلو أمر العالم الفذ من خفة دم ومرح عجيبين تمتع بهما.. وعفوية وتلقائية لكل من يتعامل معه.. حتى أنه يهتم بالنكتة فى حياة المصريين, ويشرع فى تأليف كتاب عن ذلك.
فى الأول من شهر يونيه الفائت حصل الدكتور العالم على جائزة "رجل العام" والتى منحتها له نقابة صيادلة مصر فى إطار احتفالاتها بـ"يوم الصيدلى المصرى".. شهر يفصل بين تكريمه ورحيله، لتتقافز إلى مسامعى كلماته التى قالها يوماً فى أوائل التسعينيات حينما كنّا فى نهايات دراستنا الجامعية فى رثائه للمفكر الصحفى عادل حسين قائلاً "لم يمت من أنجب فكراً وحرك شعباً".. وبذا فإن "رجل العام" الإنسان والجنرال الذى أنجب موسوعات فكر وحرك أعماقاً بشرية من المحيط إلى المحيط.. لم يمت.. إنها دعوة لأن يحمل الراية الكثيرون!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة