مبنى نيابة المرور فى إدارة مرور القاهرة بالدراسة، يلخص حالة أغلب شوارع القاهرة. كل خطوة فى الردهات تقنعك بأنك دخلت إلى ورشة أشغال ولا توجد لافتة تدلك على الوجهة التى تقصدها. والسلم لا يوصلك إلى مكتب سداد المخالفات فى الدور الرابع مباشرة، وإنما لابد من التحول إلى سلم آخر فى منتصف الطريق، وهى بالطبع مسألة ربما لا تكتشفها إلا بعد وصولك للدور الرابع، حيث تضطر للنزول والسؤال عن الطريق الصحيح.
مرة أخرى البداية لا تتفق مع الصورة الإلكترونية التى رسمها صاحبنا، لإجراءات إنهاء ترخيص السيارة بعدما استخرج قيمة مخالفاته من موقع الحكومة الإلكترونية. فى قاعة سداد المخالفات اكتشف صاحبنا أن قيمة مخالفات سيارته تزيد بنسبة 40 فى المائة تقريباً عن الرقم، الذى استخرجه من موقع الحكومة الإلكترونية على الإنترنت. نظر موظف الشباك فى شاشة كمبيوتر أمامه، وقال إن بيانات الإنترنت غير ملزمة وأن هناك مخالفات جديدة تم تسجيلها. وعرف صاحبنا أن أحدث مخالفة مضى على تاريخها أربعة أشهر على الأقل. لماذا تأخر تسجيلها كل هذه المدة.. مسألة غير إلكترونية على الإطلاق.. لكن لا مجيب؟ كيف إذن سيكون حال أى مواطن صدق الحكومة الإلكترونية، وجاء لنيابة المرور وفى جيبه مبلغ المخالفات المسجلة على موقع الإنترنت ثم فوجىء بزيادة كبيرة، ربما يضطر للعودة فى يوم آخر بعد استكمال المبلغ، وبالتالى يضيع يوم كامل بدلاً من اختصار الوقت إلكترونياً.
أخرج صاحبنا حافظته لسداد المبلغ المطلوب، لكنه تنبه إلى حوار تعلو نبرته بين شاب فى أوائل العشرينيات ورجل فى منتصف العمر يجلس على إحدى أريكتين فى القاعة، فى مواجهة المدخل فى انتظار انتهاء الإجراءات. كان الشاب أسمر البشرة، يقف أمام باب مكتب صغير على يمين المدخل يتصل عبر باب آخر بمكان جلوس موظفى الشباك.
فجأة التفت الشاب إلى الرجل، وقال له "نزل رجلك لو سمحت علشان البيه وكيل النيابة احتمال يوصل دلوقتى"، تنبه الرجل إلى أنه يضع ساقا على ساق. ورد على الشاب قائلاً، إنه لا يقصد إهانة أحد وأنه لو تصادف مرور أى شخص من أمامه فسينزل ساقه من باب اللياقة. لكن الشاب كرر الطلب بنبرة مرتفعة وقال "البيه وكيل النيابة ممكن يأذينى لو وصل وشاف حد قاعد بالشكل ده"، واستطرد الشاب كأنما يكشف عن تدريبه أو خبرته فى تأليب الرأى العام قائلاً "وبعدين أنت مش أحسن من باقى الناس"، تلفت الرجل حوله.. كان يجلس بمفرده على إحدى الأريكتين وعلى الأريكة الأخرى كان يجلس ثلاثة اشخاص، لكنه كان الوحيد الذى يضع ساقاً على ساق. لم تكن تبدو على الرجل الذى يرتدى قميصاً أبيض وسروالا داكنا ملامح كبرياء أو عجرفة. بدت عليه ملامح الحرج، لكنه رفض إنزال ساقه رغم نبرة التهديد من الشاب الذى صاح صيحة بدا أنها التحذير النهائى، مما لا يحمد عقباه قائلاً: "يعنى مش عايز تنزل رجلك؟"، وقبل أن ينطق الرجل سمع موظف الشباك ينادى اسمه. هب واقفاً، كأنه يتشبث بطوق إنقاذ من ورطته. تقدم من الموظف وتسلم شهادة سداد المخالفات، ثم انطلق مسرعا إلى خارج القاعة كأنما ينجو بجلده من خطر داهم.
لم يجد صاحبنا لمثل هذا الموقف موقعا من الإعراب فى عالم الحكومة الإلكترونية. ألا يتيح السداد الإلكترونى للمخالفات تجنب مثل هذه المواجهة بين شاب اعتبر أنه يدافع عن السلطة وبين مواطن عادى، جاء لقضاء إحدى مصالحه دون أن يقصد الاشتباك مع أى طرف. أفاق صاحبنا من أحلامه الإلكترونية على صوت موظف الشباك يطلب منه الانتظار حتى انتهاء إجراءاته. نظر صاحبنا إلى الأريكة الخشبية نظرة طويلة.. بدت فى عينيه كأنها مصيدة تختبر إطاعته للسلطات، ويمكن أن تقوده هو الآخر لمواجهة غير إلكترونية على الإطلاق.. وفضل الانتظار وقوفاً.