لو تأملنا سينما يوسف شاهين منذ فيلمه الأول "بابا أمين" وحتى فيلمه الأخير "هى فوضى" سنجد أنفسنا أمام قراءة تحليلية لتاريخ مصر بأحداثه وأزماته وثوراته من منظور "شاهينى" بحت، ففيلمه الأول "بابا أمين" عام 1950 كان عملاً رائعا به جرأة درامية ورؤية تأملية فلسفية فى الحياة والموت، وكان بطله الفنان حسين رياض، وهذا الفيلم أكد أن هزيمة 48 أو النكبة كان لها فوائد، فقد أيقظت الوعى القومى والإسلامى بخطورة ما يجرى على أرض فلسطين، وانعكس ذلك إيجابيا على مصر بثورة القائد الخالد جمال عبدالناصر، التى جرفت المنطقة بعيدا عن الأحلاف العسكرية، والنظم الملكية الفاسدة والمتحالفة مع الاستعمار.
أما فيلمه "صراع فى الوادى" الذى أنتج وعرض عام1954 فهو بحق فيلم حلل مجتمع الإقطاع والطبقية الصارخة قبل ثورة 1952، وفيه يتم تنفيذ إعدام شخص برئ لأول مرة فى السينما العربية، وكان المقصود هنا هو براءة فلسطين من مؤامرات الاستعمار الغربى، والتأكيد على أن التحالف الإقطاعى الرأسمالى العربى لن يحل قضية العرب فى التقدم، ولن يحسم الصراع العربى الصهيونى، وإنما الفلاحون والعمال وصغار المنتجين هم أصحاب المصلحة فى تحرير الوطن كله.
ويتفق مع ذلك الناقد السينمائى الدكتور رفيق الصبان مضيفا: "أفلام يوسف شاهين تأريخ لأحداث مصر والوطن العربى، وهى تنقسم إلى تاريخ ما قبل الثورة وتاريخ ما بعد الثورة داخل الأفلام ذاتها، فمرحلة ما قبل الثورة شملت الإقطاع الزراعى والإنجليز والقضية الفلسطينية وفساد الملك وحاشيته، ونجد ذلك فى أفلام "الناس والنيل والأرض وإسكندرية ليه وصراع فى الوادى".
أما أفلام ما بعد الثورة فركزت على أحداث التأميم والاشتراكية "فجر يوم جديد" ثم النكسة والقمع السياسى وزوار الفجر فى "العصفور والاختيار وعودة الابن الضال" وانهيار الطبقة الارستقراطية فى مصر ومرحلة الانفتاح فى عهد السادات حتى التحولات فى عهد مبارك وسيطرة رأس المال فى "الآخر".
واستكمالا لرأى الناقد رفيق الصبان، سنجد أنه حتى فيلمه "جميلة بوحريد" عام 1958 برغم أن أحداثه تدور فى الجزائر، لكنه عكس ما كان يحدث داخل مصر وكان شاهدا توثيقيا لمعركة المليون شهيد ضد الاحتلال الفرنسى البغيض بكل وحشيته، وبطبيعته الاستيطانية "الإحلالية".
وإذا انتقلنا إلى مرحلة النكسة والبحث عن أسبابها، سنجد أربعة أفلام بحثت عن ذلك هى (الأرض) و(الاختيار) و(العصفور) و(عودة الابن الضال) .. وقد فتش شاهين فى أفلامه الأربعة هذه، تحديداً عن أسباب نكسة 67 وأوضح تأثره الشديد بها. ففى (الأرض) تجلت الروعة كاملة عندما ناقش الفكرة نفسها مجردة .. فكرة تمسك الفلاح بأرضه واستبساله واستماتته فى الدفاع عنها ونيل حقه.
أما فيلمه (الاختيار) فهو المواجهة المباشرة مع الهزيمة، والطرح الواضح لمسئولية المثقفين عن هذه الهزيمة، ومسئولية المجتمع ككل.
أما فيلم (العصفور) فقد حظى بنصيب وافر من الجرأة، وكان محملاً بمضامين فكرية مختلفة كلها تتمركز حول غضب الشعب من المؤسسات الحكومية المرتشية المخربة بعد النكسة.. وقد تم منع عرض الفيلم إلى ما بعد حرب أكتوبر، مما أصاب (شاهين) ببعض اليأس، وبدأت تدور فى ذهنه فكرة فيلمه المميز (عودة الابن الضال).
واستمر شاهين فى ذلك الفيلم رحلته فى البحث المتواصل عن أسباب هزيمتنا فى نكسة 67، وطرح شاهين فى الفيلم أفكار كثيرة تتشعب لمستويات شتى.. أفكار كلها تدور حول ضرورة العلم، وتحقيق الحلم، والاغتصاب، والطمع، وحب المال، والإيمان بدور الشباب، وأهمية البناء، والثورة على المغتصب، والأمل فى المستقبل.
أما أفلامه التى حملت سيرته الذاتية (إسكندرية ليه عام 1979، وحدوتة مصرية عام1982 وإسكندرية كمان وكمان 1990 وإسكندرية نيويورك عام 2004، كلها تناول فيها حياته من خلال تاريخ مصر وهذا ما أكدته الناقدة خيرية البشلاوى، وأضافت: علاقة شاهين بأمريكا تشبه علاقة مصر بها، فقد صور أمريكا كامرأة ساقطة عندما صبغ وجه تمثال الحرية بمساحيق التجميل الفجة، وصنع فلقة بين أسنان وجه التمثال، وألصق بالوجه ابتسامة سخرية بشعة، ووصف أمريكا نفسها من قبل بأنها عاهرة.
ويستكمل الناقد عصام زكريا الحديث قائلا: يوسف شاهين من أكثر المخرجين الذين قدموا أفلاما، ولديهم "هم" ولم يقدم أفلاما للترفيه وبالفعل تاريخ مصر ومراحله المهمة سنجدها فى أفلامه.
وعلق زكريا على فيلم (المصير)، معتبراً أن الفيلم نقل ومضات من تاريخ فرنسا الملىء بالجهل والظلمات.. فى حين صوّر مصر بلداً للنور والمعرفة.. وقد رسخ أيضاً هذا المفهوم أكثر من مرة فى أفلام أخرى كـ(المهاجر)، و(سكوت ح نصور).
وعن فيلم "هى فوضى"، قال زكريا إن شاهين اقترب جداً من طرح فكرة خطورة السلطة المطلقة، لأنها مفسدة مطلقة، حيث إن الأزمة لا تكمن فحسب عند فساد حاكم فرد، بل إن هذا الفساد ينتج فسادا أصغر فى كل المستويات والطبقات والمراحل.
اثنان وثمانون عاما مروا فى جبين يوسف شاهين، ذلك الرجل الذى اعتبروه بأفلامه تاريخ أمة بكل حلوها ومرها، انتصاراتها وإخفاقاتها، بها ما يبهج وبها ما كاد يدفعه إلى الجنون أو الذبحة الصدرية، وأصبح الصبى العجوز شاهين أكثر أرقا فى منامه، تخيلوا أنه مازال يحلم بتقديم أفلام عن فلسطين، والعراق والمقاومة، وقال لى حين زرته قبل عامين فى مكتبه بوسط العاصمة المصرية، إنه مازال يحلم بإنتاج أفلام عن المقاومة الثقافية للاحتلال فى العراق والاستيطان العنصرى فى فلسطين وعن المقاومة وحسن نصر الله والفدائيين، وكأنه ابن العشرين، وقال أيضا إن فلسطين بالنسبة له ليست قضية مركزية، ولا هى الكلام "المجعلص" الذى يردده المثقفون مثل العلكة، وإنما هى محور حياته، وقال أيضا إن مصر وفلسطين حاضرتان فى كل أفلامه يكفى أن تدقق وراء كل مشهد وكل صورة، فهما موجودتان وراء كل قصة حب، وكل مشكلة زوجية وكل اضطهاد لرأى وكل قمع لفكره.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة