تمثل الأبعاد الخارجية لأزمة دارفور مكونا رئيسيا من مكونات الأزمة التى بلغت درجة هائلة من التعقيد، مما جعلها تبدو مستعصية على الحل، بعد أن أدى تداخل الأجندات الإقليمية والدولية إلى جعل هذا الإقليم المأزوم ساحة واسعة لصراعات وتدخلات واسعة النطاق من فاعلين إقليميين ودوليين، بالإضافة إلى طائفة واسعة من الفاعلين الجدد فى النظام الدولى مثل جماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدنى والإعلام الدولى ومنظمات الإغاثة، فضلا عن المحكمة الجنائية الدولية التى أدى تدخلها الصارخ فى ملف دارفور، وبشكل متوال، إلى تأثيرات سلبية للغاية على مفاوضات التسوية لأزمة دارفور من خلال الاستمرار فى سياسة توجيه الرسائل الخاطئة إلى الحركات المسلحة فى الإقليم وإلى الأطراف الإقليمية الضالعة فى هذا الملف .
يركز هذا التقرير على هذه الأبعاد من خلال تناول الإطار العام لتدخل المحكمة الجنائية الدولية تجاه السودان، بالإضافة إلى إلقاء الضوء بشكل عام على الأبعاد الخارجية لأزمة دارفور، من خلال استعراض الملامح الأساسية لما ذكره عبدالله زكريا مؤسس حركة اللجان الثورية فى السودان ورئيس المعهد العالمى للدراسات الأفريقية بالخرطوم فى الندوة التى عقدها فى الأسبوع الماضى برنامج دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية .
المحكمة الجنائية الدولية
فى 31 مارس 2005 أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1593 الذى قرر فيه إحالة الوضع القائم فى دارفور إلى المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، وقد صدر القرار بموجب أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كما أشار المجلس فى مقدمة القرار إلى تقرير لجنة التحقيق الدولية بشأن انتهاكات القانون الإنسانى الدولى بدارفور.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا القرار الذى صدر بموافقة 11 عضوا من أصل 15 عضوا فى مجلس الأمن مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، قد احتوى على الكثير من التناقضات، التى من أشهرها أنه نص فى متنه على إعفاء أى شخص أمريكى من الخضوع للمحكمة بمناسبة تناولها لهذه القضية، حيث إن الولايات المتحدة رفضت الانضمام إلى نظام روما الأساسى الذى تم إنشاء المحكمة الجنائية بمقتضاه، بعد أن رأت أنه سوف يقيد حركتها حول العالم، وأنه سوف يعرض جنودها وقادتها العسكريين والسياسيين إلى هذا النوع من المحاكمات، ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك بل عمدت إلى توقيع اتفاقيات ثنائية مع معظم دول العالم تمتنع هذه الدول بمقتضاه من تسليم أى مواطن أمريكى إلى المحكمة فى حالة طلبه.
وقد ثار جدل كبير وقت صدور القرار حول خضوع السودان لاختصاص المحكمة، حيث رفضت الحكومة السودانية منذ البداية الاعتراف بهذا الاختصاص، استنادا إلى عدم تصديق السودان على نظام روما الأساسى، فى الوقت الذى تمسكت فيه المحكمة باختصاصها قائلة إن الملف قد تم تحويله إليها عبر قرار من مجلس الأمن الدولى، الذى اعتبر أن الوضع فى السودان يمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، غير أنه يمكن القول إن الوقت قد فات الآن على مثل هذا الجدل، بالنظر إلى أن طريقة ممارسة المحكمة لعملها أكدت الصبغة السياسية الواضحة لها منذ البداية، حيث انتقلت المحكمة من محاولة ابتزاز الحكومة السودانية، عبر تجزئة الإعلان عن قوائم الاتهام لديها، والطلب من الخرطوم تسليم كل من أحمد هارون وزير الدولة بالداخلية السابق وعلى كوشيب الرقيب السابق بقوات الدفاع الوطنى ( كقائد مزعوم لإحدى ميليشيات الجنجويد )، بغرض الحصول على تنازلات من حكومة الخرطوم، ثم الإعلان عقب ذلك عن أسماء أخرى، وهلم جرا.. أى إبقاء الحكومة السودانية دائما تحت طائلة التهديد.
ثم تطورت ممارسات المحكمة، بعد رفض السودان القاطع للاعتراف بالمحكمة أو تسليم أى شخص سودانى إليها، إلى الإعلان عن محاولة اختطاف- لم تنجح - لطائرة كانت من المفترض أن تقل أحمد هارون ذاهبا إلى الحج، ثم اتجهت الآن إلى محاولة تقويض النظام السياسى والدستورى القائم فى السودان عبر الإعلان عن نية المدعى العام للمحكمة لويس أوكامبو توجيه الاتهام مباشرة إلى رئيس الدولة وعدد من أركان النظام.
وخطورة هذه المسألة أنها لا تنصرف إلى هذا الشخص أو ذاك من القادة السياسيين أو الأمنيين فى حد ذاتهم أو للرئيس البشير نفسه، وإنما فى استهدافها لشرعية النظام القائم على المستويين السياسى والدستورى، وصولا إلى تقويض هذه الشرعية، وتزداد هذه الخطورة ضراوة بالنظر إلى المرحلة الانتقالية الحرجة والحساسة التى يمر بها السودان – كدولة وليس فقط كنظام سياسى – حيث يواجه الآن عدة استحقاقات مصيرية، على رأسها الاستمرار فى تطبيق اتفاقية نيفاشا، والانتخابات البرلمانية المقررة فى عام 2009، وحق تقرير المصير للجنوب المقرر فى عام 2011، فضلا عن أزمة دارفور نفسها، التى تأتى تحركات المحكمة الجنائية حيالها لتكون بمثابة قطع الطريق على أى تسوية محتملة لأزمة دارفور، عبر توجيه رسالة صريحة وواضحة، لكل الأطراف المحلية أو الإقليمية الضالعة فى الأزمة بعدم التفاوض انتظارا للنتائج التى سوف تفرزها تحركات المحكمة.
وفى ظل التفاعلات السياسية الحالية فى السودان والتى تتسم بالاحتقان الهائل نتيجة العودة إلى الولاءات الأولية الضيقة، سواء كانت إثنية أو جهوية أو قبلية، فإن هذا قد يؤدى إلى خلق حالة من التهديد الجسيم لوحدة السودان وتماسك أراضيه، وبما قد ينتهى ضمن سيناريوهات أخرى إلى تفكيك السودان، أو انزلاقه إلى حالة من الفوضى الشاملة، التى لن تقتصر على السودان بل سوف تنجم عنها مجموعة من الاختلالات يختلط فيها الحابل بالنابل، وتمثل تهديدا كبيرا لمنطقة واسعة من الحدود المصرية والليبية فى الشمال وصولا إلى منطقة البحيرات العظمى والقرن الأفريقى، الأمر الذى يتشابه إلى حد كبير مع الحالة العراقية وما أفرزته من ارتباكات إقليمية ودولية.
إن كل ذلك يشير إلى اضطراب ترتيب أولويات ملف أزمة دارفور، ويثير التساؤلات والشكوك واسعة النطاق حول الهدف من الإصرار على إطلاق العنان لممارسات المحكمة، عبر توفير بيانات ومعلومات معينة - يصعب التأكد من صدقتيها – للمدعى العام أوكامبو وحثه على توسيع نطاق اتهاماته، فى الوقت الذى يجرى فيه تجاهل بذل أى جهد جدى لتسوية الأزمة من الناحية الفعلية بل السعى إلى تأجيجها عبر وسائل عديدة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المدعى العام للمحكمة يستقى المعلومات والبيانات التى يستند إليها من مصدرين اثنين، هما بعض جماعات الضغط الأمريكية المرتبطة باللوبى الصهيونى وعلى رأسها تحالف إنقاذ دارفور، بالإضافة إلى بعض الجهات داخل الإدارة الأمريكية الحالية.
المواقف الأمريكية من دارفور
فى سياق متصل بهذا الإطار، جاء حديث عبدالله زكريا فى ندوة مركز الأهرام للدراسات، لكى يتناول جانبا آخر من الصورة الخاصة بالتدخلات الخارجية، والخلفية التى تنطلق منها والأهداف التى تسعى إليها.
وأهمية الأبعاد التى ركز عليها المتحدث تعود إلى عدة أسباب، على رأسها أن الرجل ينتمى إلى إقليم دارفور، وبالتحديد إلى مدينة الفاشر العاصمة التاريخية للإقليم، حيث كان جده المباشر أحد العلماء البارزين فى دارفور وكان مفتيا للسلطنة فى عهد "على دينار" آخر سلاطين دارفور – وأكثرهم شهرة - قبل إعادة ضمها للسودان عام 1916 بواسطة القوات البريطانية التى كانت تحتل السودان آنذاك بعد أن قتلت على دينار وهزمت قواته بسبب مواقفه الموالية للسلطان العثمانى فى الحرب العالمية الأولى.
كما أن عبدالله زكريا سياسى ومفكر بدأ انخراطه فى العمل العام منذ وقت مبكر وكان من أوائل قادة الحركة الإسلامية الحديثة فى السودان، إلا أنه خرج منها فى الانشقاق الذى وقع فى الحركة فى أواسط الستينيات من القرن الماضى، وترتب عليه خروج بابكر كرار الذى كان الشخص الأبرز فى ذلك الوقت نتيجة ميله وتبنيه لبعض أفكار الاشتراكية الفابيانية، حيث كانت هذه المجموعة توصف فى وسائل الإعلام بأنهم "شيوعيون إسلاميون"، وقد أسس عبدالله زكريا بعدها الحزب الاشتراكى الإسلامى، لكى يؤسس فيما بعد حركة اللجان الثورية فى السودان، بعد أن تبنى أفكار الكتاب الأخضر الذى أطلقه العقيد القذافى والذى يعد عبدالله زكريا بشكل أو بآخر أحد منظريه.
ركز المتحدث فى مداخلته الرئيسية وفى رده على التعقيبات التى تلت ذلك، على أنه لا يمكن النظر إلى المسارات التى تم تصعيد أزمة دارفور من خلالها بمعزل عن الأوضاع العامة فى السودان، وطبيعة موقعه الجغرافى الفريد فى القارة الأفريقية، فضلا عن مساحته الشاسعة التى تبلغ مليون ميل مربع، أى أكثر من مرتين ونصف مساحة مصر، بالإضافة إلى ثرواته الهائلة وغير المستغلة سواء من ناحية المخزون النفطى أو المعادن الاستراتيجية مثل اليورانيوم فضلا عن الأراضى الزراعية أو المياه.
عاد عبدالله زكريا إلى البدايات الأولى لاهتمام الولايات المتحدة بالسودان، حين أشار إلى أن الرئيس الأمريكى ترومان عقد اجتماعا لكبار المتخصصين فى الموارد الطبيعية، وكان السؤال المطروح: إلى أين تتجه أمريكا فى حالة ضعف أو استنفاذ مواردها الهائلة، وكان الجواب أن هناك أربعة دول بالغة الثراء بالموارد الطبيعية، وأن هذه الدول يجب أن تبقى دائرة فى الفلك الأمريكى، وترتيبها من حيث حجم الثروات كالتالى : السودان، أستراليا، كندا، البرازيل. وأنه من ذلك الوقت اعتمدت واشنطن توجها عاما بالإبقاء على ثروات السودان غير مستغلة إلى حين اتخاذ قرار بالتوجه إليه، ولذلك فإن الولايات المتحدة مازالت تعتبر النفط السودانى حقا لها، وتضع بين أهدافها الخاصة بالسودان إخراج الصين من هناك، والهيمنة على كل موارد السودان الطبيعية، وأن كل ما يحدث فى السودان الآن بما فى ذلك أزمة دارفور يقع فى هذا الإطار.
فى السياق نفسه أشار زكريا إلى أن هناك بعض التقارير التى تؤكد وجود مخزون نفطى هائل فى دارفور بالإضافة إلى اليورانيوم والنحاس، وأن أهمية دارفور والسودان بشكل عام تزداد بالنظر إلى وجود قرار أمريكى معتمد بالفعل لمحاولة تخفيف الاعتماد على نفط منطقة الخليج والسعى إلى تعظيم الاستفادة من النفط السودانى والأفريقى بشكل عام . وأكد المتحدث على أنه كان يوجد قرار أمريكى باحتلال دارفور والسيطرة عليها بشكل كامل عبر إرسال قوات تتكون من 30 ألف جندى من حلف الأطلنطى تساهم فيها الولايات المتحدة بخمسة عشر ألف جندى وأستراليا بعشرة آلاف وبريطانيا بخمسة آلاف، وأشار إلى التصريحات العلنية التى أطلقها تونى بلير فى هذا الشأن. وقال إنه قد جرى وضع 14 قمرا صناعيا لمراقبة هذه المنطقة، وهى الأقمار التى استخدمت صورها بعد ذلك فى تدبير الحملة الإعلامية الدولية ضد السودان عبر التلاعب فى الصور.
وأكد عبدالله زكريا أن التدخل الأمريكى فى العراق اعتمد على ذريعة أسلحة الدمار الشامل التى ثبت كذبها المطلق، وأن النية والترتيبات فى دارفور كانت تتجه لاستخدام ذريعة التدخل الإنسانى، إلا أن التدخل العسكرى المباشر قد تضاءلت فرصه إلى حد كبير تحت تأثير الفشل الأمريكى الذريع فى العراق، حيث وجدت واشنطن نفسها فى مستنقع متحرك، لا تعرف كيف تتصرف تجاهه أو تجاه التداعيات المعقدة الناجمة عنه، وأن الأوضاع المتردية فى العراق ثم فى أفغانستان هى التى أنقذت دارفور من الاحتلال الأمريكى المباشر، وأن ما يحدث الآن من تعثر لعملية التسوية، ومن انخراط قوى إقليمية عديدة فى أزمة دارفور، يقع فى إطار المخطط الأمريكى الذى يبحث عن طرق بديلة لتنفيذ خططه التى تأجلت.
موضوعات متعلقة..
◄4 تحركات لتسوية الأزمة السودانية .. بينها 3 داخلية
لويس أوكامبو - AFP
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة