أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم 10 يوليو الجارى بيانا أوضحت فيه أنه فى ضوء تقرير البعثة الدولية فى دارفور وتحقيقات المحكمة والأدلة التى توصلت إليها، فقد أحالت إلى مجلس الأمن كل هذه الوقائع، حيث شرع المجلس بالفعل منذ يوم 10/7 فى نظر الملف كاملاً. أشارت المحكمة إلى أنها تبحث إصدار أمر بضبط وإحضار الرئيس البشير ونائبه لمحاكمتهما، والاستعانة فى ذلك بمجلس الأمن. لقى هذا البيان ترحيباً حاراً من منظمات حقوق الإنسان ومن المواقع الإلكترونية الواسعة التى أنشأتها إسرائيل والأوساط الصهيونية، والجماعات التى أنشأتها لمساندة ضحايا دارفور وترويج معلومات بأن الضحايا يزيد عددهم على ثلث المليون، بينما اللاجئون والمشردون يتجاوزون المليونين والنصف المليون.
هذا التطور الخطير أعقب الإعلان فى منتصف يونيو من جانب المحكمة الجنائية الدولية بأنها تراجعت عن خطة لخطف طائرة أحمد هارون وزير الداخلية السودانى السابق، الذى اتهم وخمسون سودانياً من المسئولين بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1593، والذين أحالهم المجلس إلى المحكمة للتحقيق، وأصدرت قرارها بالاتهام. توازى ذلك مع تصاعد الضغوط الأمريكية على الحكومة السودانية من جميع الاتجاهات، فواشنطن وإسرائيل تساندان انفصال الجنوب، وتحرضان زعيم الجنوب سلفاكير والنائب الأول للرئيس، الذى اتخذ كل الترتيبات لابتزاز حكومة الخرطوم والاستعداد للانفصال فى استفتاء يجرى عام 2011 بدعم أمريكى إسرائيلى لإعادة رسم خريطة السودان والسيطرة على مقدراته البترولية وضرب المصالح المصرية فيه.
ثبت من ناحية ثالثة باعتراف قيادات التمرد فى دارفور علاقة إسرائيل بهم وتسليحهم وفتح مكاتب لهم فيها، ثم كان تجرؤ المعارضة على محاولة قلب نظام الحكم فى الخرطوم بعد أيام من الإعلان عن محاولة قلب نظام الحكم فى تشاد والتوتر الجديد فى علاقات تشاد والسودان.
ولاشك أن هذا التطور الجديد هو قمة الحرب النفسية الأمريكية ضد البشير، وهو عمل يمثل قمة التصعيد منذ إثارة الأزمة فى دارفور بعد ترتيبات السلام بين الشمال والجنوب، وانخراط الحركة الشعبية فى الجنوب فى دعم التمرد فى دارفور والشرق ضد الخرطوم. المعلوم أن هذا التطور لا يمكن قراءته منعزلاً عن المخطط الأمريكى الذى عمد إلى توظيف مجلس الأمن، والآن يوظف المحكمة الجنائية الدولية. ولذلك لا مفر من تحليل أبرز الجوانب القانونية والسياسية وآثارها على مجمل الملف فى دارفور.
أولاً: لا نزاع فى أن الجانب الإنسانى فى المشكلة يستحق الاهتمام، وأنه لا يمكن السكوت على أية جرائم خطيرة ترتكب ضد السكان، ولكن تصعيد الجانب الإنسانى والتركيز على جرائم الحكومة دون المتمردين وعدم الضغط عليهم لتوقيع اتفاق أبوجا الذى وقعته الحكومة أثار التساؤل. وهذا الاهتمام اللافت بالجانب الإنسانى فى دارفور من جانب مجلس الأمن والمحكمة والحكومة الأمريكية، فى الوقت الذى يساندون فيه الإجرام الصهيونى ويسكتون على الإجرام الأمريكى فى العراق وأفغانستان والسجل المخزى لانتهاكات حقوق الإنسان، بل اغتيال حقوق الإنسان المدنية داخل الولايات المتحدة بتواطؤ مجلس الشيوخ الذى أصدر يوم 10/7/2008 قانوناً يوسع صلاحيات الحكومة فى إطلاق يد شركات الاتصالات للتنصت على المواطنين، وهو الاجراء الذى أدانته من قبل المحكمة العليا الأمريكية، بما يؤدى إلى خلل فادح فى بنية النظام السياسى الأمريكى وفساده وعدم صلاحيته لحماية حقوق المواطن الأساسية بذريعة مكافحة الإرهاب الموهوم، فاستغلت الإدارة حمى الخوف التى زرعتها لتسلب حريات المواطنين بحجة حمايتهم وتأمينهم.
فى نفس يوم 10/7/2008 أصدرت محكمة الدرجة الأولى فى لاهاى حكمها فى قضية رفعها ستة آلاف من أسر ضحايا مذبحة سربينتشا فى البوسنة، قررت فيه أن قوات الأمم المتحدة (الهولندية) التى تواطأت مع الصرب بالانسحاب وترك الساحة لهم فى إحدى المناطق المفترض أنها آمنة وتحت سيطرة ما يسمى بقوات الحماية الدولية، هذه القوات وكذلك الحكومة الهولندية تتمتع بالحصانة القضائية.
ثانياً: من الناحية القانونية تتمتع القيادة السودانية بحصانة الدولة، وهو مبدأ مستقر فى القانون الدولى وأكدته محكمة العدل الدولية عام 2003 عندما أصدر القضاء البلجيكى مذكرة توقيف ضد وزير خارجية الكونغو بتهمة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، فرفعت الكونغو القضية التى صدر بشأنها هذا الحكم الشهير، رغم أننا انتقدناه بسبب جسامة الجرائم التى يمكن الافلات منها بسببه. وقد سبق أن أثير نفس الموضوع عندما اعتزم شارون زيارة بلجيكا فانتظره أمر القاضى بالقبض عليه فى قضية رفعها أهالى ضحايا صبرا وشاتيلا، وثم تعديل المادة 12 من قانون الاجراءات الجنائية البلجيكى لينسجم مع حكم المحكمة السابق.
وقد رد البعض على ذلك بأنه تم القبض على ميلوسوفيتش وهو رئيس يوغوسلافيا وعلى تايلور رئيس ليبيريا، وردى أن القبض على ميلوسوفيتش كان بترتيب حلف الأطلسى استكمالا لحملته غير المفهومة والقصف الجوى لأكثر من شهر للمدن اليوغوسلافية، وهو ما أدانته محكمة العدل الدولية، كما أن القبض عليه لا يعد سابقة طيبة، ثم إنه حدث قبل تأكيد المحكمة لهذا المبدأ. أما تايلور فقد احتالت واشنطن مع نيجيريا لإخراجه من ليبيريا ثم نقضتا الاتفاق معه وقدمتاه للمحاكمة، بصرف النظر عن أنه يستحق الموت أو الحياة.
ثالثاً: صحيح أن المحكمة الجنائية الدولية تستطيع أن تستعين بمجلس الأمن، ولكن الفيتو الروسى والصينى قطعاً فى انتظار أى اقتراح أمريكى بالقبض على البشير، والسند القانونى هو مبدأ حصانة الدولة من ناحية، ومبدأ قيام كل المنظمات الدولية على مبدأ سيادة الدولة. ولماذا لم تستعن محكمة العدل الدولية بمجلس الأمن لإرغام إسرائيل على تنفيذ رأيها الاستشارى - وهو أقوى من الحكم القضائى- فى قضية الجدار العازل؟ واستكانت الأمم المتحدة بضغط واشنطن إلى السكوت على تصرف المحكمة العليا الإسرائيلية التى أبدت كل الاحتقار للمحكمة العالمية فى هذا الصدد.
إننى أهيب بكل المنظمات الحقوقية العالمية والعربية أن تقدم إلى المحكمة بلاغاً بجرائم أمريكا فى العراق وفلسطين وأفغانستان والسجون العسكرية الأمريكية وجرائم إسرائيل اليومية فى فلسطين ومشروعها الصهيونى الذى يعد جريمة مستمرة يساهم العالم كله فى تنفيذها، وكذلك جرائم الإبادة فى لبنان خلال عدوان 2006 الذى انتهى بإدانة الضحية فى القرار 1701 .
رابعاًً: إن سلوك المحكمة الجنائية الدولية السياسى يقطع بأن واشنطن، التى تحتقر القضاء الدولى عموماً والجنائى خصوصا،ً وتحارب هذه المحكمة بطرق لا يتسع المقام لتفصيلها، تسيطر تماماً على عملها، بل إن المحكمة نفسها فقدت المصداقية بعد أن اعترفت بأنها خططت لخطف طائرة أحمد هارون المتهم من جانبها خلال رحلة للحج، فكيف تسوغ المحكمة إحضار منهم بطريق غير مشروع وقد سبق أن أدين حكم المحكمة العليا الأمريكية فى قضايا مشابهة؟! خاصة عندما قبضت السلطات الأمريكية على مواطن مكسيكى مطلوب أمام القضاء الأمريكى، وقبضت على الرئيس نورييجا فى منزله فى بنما وكأنها إحدى الولايات الأمريكية، وهذا يناقض مبدأ أصيلا فى المشروعية القانونية، وهو أن عدم قانونية الإبلاغ أو الإحضار للمتهم يبطل كل الإجراءات القضائية.
هذا الموقف يدفع الدول العربية إلى عدم الانضمام إلى المحكمة، ويهزم كل دعاوى من يكافح لجذب العالم العربى إليها بوهم أنها يمكن أن تحاكم المجرمين الإسرائيليين، وهو طعم لا يجوز للعالم العربى أن يبتلعه.
خامساً: صحيح أن جرائم وقعت فى دارفور، فى سياق الحمى التى خلقها الغرب ومساندته للمتمردين ضد الحكومة، ولكن المتمردين الذين وظفتهم أمريكا وإسرائيل فى حرب سياسية مؤلمة يتاجرون بالقضية ويرتكبون أبشع الجرائم. والحل يجب أن يبدأ بدفع التمرد إلى الانضمام إلى اتفاق أبوجا، ووضع القضية فى إطارها السودانى والأفريقى والعربى، حتى لا يؤدى تهور المحكمة الجنائية إلى انهيار كل رغبة سوادنية فى التعاون فى العملية السلمية.
سفير د.عبدالله الأشعل
هل يمكن محاكمة "البشير" أمام "الجنائية الدولية"؟
الثلاثاء، 15 يوليو 2008 01:09 ص