غارقة فى الأيدلوجيا، وفى علاقة الأيدلوجيا بالحياة، تعطينى دبى فرصة حقيقية كى أراجع أفكارى، وأنا أسلم رأسى بحذر.. حذر أكثر من المعتاد.. أنا التى كنت أرى المراجعة الدائمة لما يشغل الرأس من الفضائل... أخاف أن تفضى بى مراجعتى هذه المرة إلى هزيمة، هزيمة دبى ستكون هزيمة مريحة لها أحساس المخمل وطعم الموت ....
أقول لكم لماذا قد تهزمنى دبى ... حتى هذه اللحظة مازالت رفاهية دبى تأخذ أنفاسى .. أتصور أحيانا أننى فى الجنة.. أنظر حولى فأجد أغلب البشر سعداء أو على الأقل ليسوا عالقين فى أزمات عبثية كالتى نعيشها فى بلادنا، أتأمل أكثر فأجد أن دبى تجسد بوضوح كل ما دأبنا على معاداته فى أيدلوجياتنا الحالمة، إذا كنت اشتراكيا فاعلم أن دبى هى جنة الرأسمالية العالمية وموطن الشركات عابرة القارات.. وإذا كانت اشتراكيتك قد تقلصت إلى الإيمان فقط بالعدالة والمساواة بين البشر، فهنا فى دبى ستلمس ملامح طبقية غريبة قائمة على الجنسيات... يأتى على رأس قائمة الأسياد الأمريكيين والإنجليز ثم سائر الأوربيين ثم اللبنانيين على رأس القائمة العربية، وفى ذيل القائمة يأتى الأفارقة والأسيويون، أخبرنى أحد المصريين أن العامل الهندى يحصل على بدل ساعات العمل بواقع درهم ونصف لكل ساعة.. هذا الدرهم ونصف لا يكفى ثمنا لأرغفة من الخبز الحاف.
إذا كنت ليبراليا ديمقراطيا فالحرية المتاحة فى دبى هى حرية التسوق وحرية ارتداء التنورات القصيرة للنساء، حيث لا يوجد بناء سياسى فى المدينة الناشئة، أحيانا أقول لنفسى إن دبى تبدو سعيدة وهو خالية من هم الديمقراطية، وأنه لو اقتربت الديمقراطية من هذه الجنة المصنوعة لأفسدتها.. أحيانا أقول هكذا وهنا يبدأ خوفى من الهزيمة.
هل كان العالم مخطئا عبر تاريخه الطويل وهو يصوغ أفكارا وأيدلوجيات.. يشعل حروبا من أجلها ويقوم بثورات، يكافح ويقاوم، يكتب ويقرأ، يشغل باله بما يمكن أن يجعل حياة البشر أسعد، بينما هنا فى دبى يبدو أن العالم قد يكون أسعد بلا أيدلوجيا ولا أفكار، يكفى أن يبرع فى البيزنس وينشغل فى إبرام الصفقات، ويتصالح مع المنتصر.. حيث لا مكان للبديل، تبدو دبى هكذا غارقة فى هم البيزنس، حتى مع طبول الحرب التى تدق بالقرب منها، حيث لا يفصلها عن إيران سوى مضيق هرمز، تبدو دبى غير مكترثة.
دبى تتشبه بنيويورك كثيرا، أبراجها العملاقة، تعددها العرقى وانفتاحها فى وجه كل جنسيات الأرض، طموحها لأن تصبح سيدة الأعمال فى المنطقة.. تبدو دبى مدينة تحت الإنشاء، أينما نظرت واجهتك مواد البناء والرافعات.. تستعد دبى لأن تكتمل لتصبح نيويورك الشرق .. والشرق ومنذ زمن بعيد، قرر أنه سيستعير من الغرب علومه المادية لا الإنسانية، سيستورد المهندسين بينما لا حاجة له بالمفكرين، وبينما كنا نكافح تلك النظرية السائدة فى أوساط النخب الحاكمة فى كل عواصمنا العربية، يبدو أن دبى تعطينا درسا بليغا.. يقترب من الهزيمة ... أصدق أننى بحاجة لمراجعة من نوع جديد.. مراجعة تنتج أفكارا جديدة أكثر مما تحذف من القديم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة