بعد حوالى ثلاثة أسابيع من محاولة غزو مدينة امدرمان، التى قامت بها حركة العدل والمساواة الدارفورية، وجهت وزارة الإعلام السودانى الدعوة لمجموعة من رؤساء تحرير الصحف المصرية لزيارة السودان والاطلاع على الأوضاع عن قرب، وإجراء مقابلات مع مختلف قادة الطيف السياسى فى البلاد.
وكان واضحا من ترتيبات الزيارة والأشخاص الذين وجهت لهم الدعوة، أن الغرض لم يكن إجراء حوارات صحفية لنقل وجهات نظر الحكومة السودانية فى الأحداث عبر الإعلام المصرى، بقدر ما كان الهدف هو السعى إلى خلق روابط أقوى وأكثر متانة بين الشعبين المصرى والسودانى عبر إعادة إحياء الاهتمام بالشأن السودانى فى مصر بطريقة أكثر اقترابا من الواقع، وأكثر قدرة على فهمه واستيعاب تفاصيله وتعقيداته الناتجة عن التعددية واسعة النطاق فى السودان الشقيق.
ومن المعروف أن أفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف هى الزيارات الميدانية والاحتكاك بالناس عن قرب والاستماع لمختلف وجهات النظر، وملاحظة أو قراءة المناخ العام فى البلاد والتغيرات المتسارعة التى تطرأ عليه.
برنامج مكثف
شملت الدعوة عددا كبيرا من رؤساء تحرير الصحف القومية والمستقلة والحزبية، إلا أن اعتذار البعض لأسباب طارئة، أدى فى النهاية إلى سفر وفد من خمسة أشخاص، على رأسهم الكاتب الكبير الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين، وكل من الأستاذ محمود مراد نائب رئيس تحرير الأهرام، والأستاذان مصطفى بكرى رئيس تحرير الأسبوع ومحمد حسن الألفى رئيس تحرير الوطنى اليوم، وكاتب هذه السطور بصفته رئيس برنامج دراسات السودان وحوض النيل بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام .
استغرقت الزيارة يومين مشحونين باللقاءات، كان على رأسها اللقاء مع الرئيس عمر البشير ونائبه الأول الفريق سلفا كير رئيس الحركة الشعبية ورئيس حكومة الجنوب، والدكتور عوض الجاز وزير المالية ووزير البترول السابق، والدكتور نافع على نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطنى الحاكم والمشرف على ملف دارفور وملف الانتخابات البرلمانية المقررة فى العام القادم 2009، وكذلك الدكتور كمال عبيد وزير الدولة للإعلام، بالإضافة إلى لقاء مع المثقفين السودانيين، وكان من المقرر أن يكون هناك لقاءان آخران مع كل من الأستاذ على عثمان طه نائب رئيس الجمهورية والسيد الصادق المهدى زعيم حزب الأمة المعارض، إلا أن وجودهما خارج البلاد أثناء الزيارة حال دون إتمام هذين اللقاءين.
التأم شمل الوفد فى وقت متأخر من مساء السبت 7 يونيه بمطار القاهرة، لكى نستقل طائرة مصر للطيران، حيث كان فى وداع الوفد الدكتور عبدالملك النعيم المستشار الإعلامى بسفارة السودان بالقاهرة، وكان فى استقبالنا على سلم الطائرة فى الخرطوم الأستاذ كمال حسن على رئيس مكتب حزب المؤتمر الوطنى بالقاهرة، والذى كان بمثابة الدينامو الذى أعد وأشرف على كل الترتيبات بروح من الحدب على العلاقات المصرية السودانية والرغبة فى دفعها إلى الأمام، وكذلك الأستاذ بكرى ملاح مدير الإعلام الخارجى وعدد من قيادات الوزارة، إلا أن المفاجأة كانت أن نجد فى استقبالنا أيضا السفير عبدالمنعم الشاذلى سفير مصر فى الخرطوم، والذى اصطحب معه كل أركان السفارة رغم أن الوقت كان فجرا، وقد كان السفير ومعظم مسئولى السفارة بعد ذلك حاضرين معنا طوال الوقت، ماعدا اللقاءات الرسمية التى رافقنا فيها المستشار الإعلامى المتميز الأستاذ/ محمد على غريب، وفى بعض الأحيان القنصل العام النشط والمتحرك دائما الأستاذ/ أيمن بديع.
اللقاء مع وزير المالية
بعد فترة استراحة قصيرة كان لقاؤنا الأول مع الدكتور عوض الجاز وزير المالية فى ضحى يوم الأحد، تم اللقاء فى مبنى بنك السودان الذى بنى على أحدث الطرق والتقنيات المعمارية وأصبح معلما من معالم الخرطوم، وإذا لم تخنى الذاكرة فقد تكلف إنشاء هذا المبنى حوالى 400 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لميزانية السودان التى أثقلتها الحرب المتواصلة لأكثر من عقدين من الزمان، ولكن يبدو أن هذه هى إحدى سمات حقبة الإنقاذ فى التطور المستمر والمتلاحق، حيث يوجد فارق هائل بين مدينة الخرطوم اليوم وبين الخرطوم التى زرتها لأول مرة فى نهايات عام 1989، وقتها كان نظام الإنقاذ الحالى فى بدايات عهده، وقد قضيت فى تلك الزيارة حوالى ستة أسابيع بغرض جمع المادة العلمية لإحدى الدراسات التى كنت أعدها آنذاك، وكانت هناك معاناة ملحوظة فى الحياة اليومية للناس نتيجة للنقص الحاد فى سلعتى الوقود والسكر، وكانت الخرطوم أقل ازدحاما بكثير كما لم تكن قد شهدت كل هذه التغيرات التى تشعرك الآن أنك تزور مدينة أخرى تشهد زخما معماريا هائلا ونموا متسارعا فى الخدمات، مثل المطاعم والمقاهى والنوادى ومكاتب تأجير السيارات والأنشطة الفنية والثقافية وغيرها.
لقاؤنا مع الدكتور الجاز شارك فيه من الجانب السودانى الدكتور صابر محمد الحسن محافظ البنك وعدد من قيادات وزارة المالية، وتم التركيز على عرض المتغيرات الاقتصادية التى حدثت فى السودان فى العقد الأخير، منذ أن نجحت الحكومة السودانية فى استخراج البترول وتصديره رغم الحصار الذى كان مفروضا عليها، واستطاعت بالتالى أن تحقق نسبة نمو سنوى تصل فى المتوسط إلى 9% وأحيانا ترتفع إلى 11 %، كما أصبح السودان بلدا جاذبا للاستثمارات خاصة أن السودان يمتلك مساحات شاسعة من الأراضى الخصبة والتى تصل بها بعض التقديرات إلى حوالى 240 مليون فدان، يمكنها أن تشكل مدخلا أساسيا للإسهام فى حل أزمة الغذاء فى العالم العربى وأفريقيا، بالإضافة إلى إمكانيات هائلة فى كل الميادين الاقتصادية، وأن الفرصة الآن متاحة للاستثمارات الخارجية التى تستطيع أن تحقق نجاحات هائلة فى الوقت الذى يستفيد فيه السودان اقتصاديا وتنمويا حتى يتبوأ المكانة التى تتفق مع قدراته وإمكانياته. وقال الجاز إن العالم العربى كله مدعو للاستثمار فى السودان ومن ضمنه مصر، وأن التأخر أو التردد قد يؤدى إلى ضياع هذه الفرص التى تتطلع إليها أطراف عديدة من أقاليم مختلفة فى العالم.
إلا أن اللافت فى حديث الدكتور الجاز أنه حينما أتى على ذكر مصر وصفها بالدولة الجارة، وهذا مسمى كان له وقع غريب على أسماعنا، فنحن نتحدث طوال الوقت عن المصير المشترك وحتميات الجغرافيا والتاريخ، والعلاقات الأزلية – ورغم كثرة استخدام المصطلح الأخير بشكل بدا معه فجا أو مستهلكا، إلا أنه صحيح ودقيق - فهل يعنى الجاز وهو المهندس الحقيقى لثورة النفط السودانية، أن علاقة السودان بمصر مثلها مثل أفريقيا الوسطى مثلا أو كينيا أو أو .. إلخ. ثارت هذه التساؤلات فى أذهان كل أعضاء الوفد فى وقت واحد تقريبا، حتى أنها ظهرت بأشكال مختلفة فى تعليقات ومداخلات معظم أعضاء الوفد على حديث الوزير.
مع أمانة العلاقات الخارجية
اللقاء الثانى كان على الغداء مع أمانة العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر التى يقودها وزير الخارجية السابق الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وكان الغداء فى مطعم الساحة الذى قامت ببنائه إحدى شركات الاستثمار اللبنانية وهو ذو طراز خاص، أضاف معلما جديدا ومذاقا جديدا للخرطوم التى أصبحت تعج بمطاعم مختلفة الأشكال والألوان تعبر عن مذاقات مختلفة، ومن بينها سلسلة مطاعم مؤمن المصرية التى سبقت إلى الخرطوم منذ سنتين، والطريف أن الوفد سبق له ان تناول الغداء على مائدة محافظ بنك السودان، إلا أن كرم الأشقاء السودانيين، أبى إلا أن نتناول الغداء مرة أخرى، ورغم محاولة الاعتذار إلا أن الأستاذ كمال حسن على نبهنا إلى أن الغداء مخطط أصلا مع أمانة العلاقات الخارجية، وإنهم فوجئوا بالترتيب الذى قام به الدكتور صابر الحسن، ولذا لا يمكن الاعتذار عن الدعوة.
أبيى والأخبار السارة
فى أثناء الغداء مع أمانة العلاقات الخارجية تم إخطارنا بأحد الأخبار السارة، وهو أنه قد تم الاتفاق على حل أزمة منطقة " أبيى" التى كانت قد وصلت فى ذلك الوقت إلى ذروة الاحتقان، وأصبحت تمثل تهديدا حقيقيا لاتفاقية نيفاشا، إلى الدرجة التى أصبحت فيها احتمالات العودة إلى الحرب تلوح فى الأفق. كان الحل المتفق عليه يتمثل فى وضع خارطة طريق لحل المشكلة بجداول زمنية محددة ومعلومة، تبدأ بحل المشكل الإنسانى فى المنطقة وإعادة النازحين الذين فروا من جراء الاقتتال وتعويضهم، مع منح فرصة أخيرة للطرفين للتوافق على تحديد حدود المنطقة خلال شهر، وإن لم يتيسر ذلك تحال المشكلة إلى التحكيم الدولى الذى سوف يكون ملزما فى هذه الحالة. وقال مضيفونا إن هذا الاتفاق سوف يوقع فى احتفال ضخم بقاعة الصداقة بحضور كل أركان الدولة والمجتمع فى السودان والسلك الدبلوماسى ووسائل الإعلام، وإننا مدعوون لحضور حفل التوقيع.
بناء على ذلك حدث نوع من التغيير فى برنامج الزيارة حيث تقرر أن يكون لقاؤنا مع الرئيس البشير عقب توقيع الاتفاق مباشرة، بعد أن كان مقررا أن نلتقى الرئيس فى اليوم الثانى (الاثنين ) بمقر إقامته. كان الاحتفال بهيجا تعمه أجواء الارتياح والفرح، وشاركت فيه عدة فرق فنية سودانية، وكانت هناك أجواء من التفاؤل بأن الطبيعة السودانية التى تتسم بالسماحة قادرة فى نهاية المطاف على التغلب على الخلافات مهما كانت حدتها.
اللقاء مع الرئيس
عقب الاحتفال مباشرة، وفى أثناء دخولنا لمقابلة الرئيس البشير، تقابلنا مع الفريق سلفا كير وبصحبته الدكتور منصور خالد وبعض قادة الحركة الشعبية، أثناء خروجهم من السلام على الرئيس، عقب انتهاء مراسم الاحتفال، وحرص الفريق سلفا على التوقف لمصافحتنا، وقال له الأستاذ مكرم إننا حريصون على مقابلته والاستماع إلى وجهات نظره، فقال إنكم محل ترحيب دائما، وأنه سيكون فى استقبالنا غدا بمكتبه بالقصر الجمهورى.
استقبلنا الرئيس البشير ببشاشته المعهودة وأفسح لنا فى الوقت، رغم أننا علمنا بعد انتهاء اللقاء أن لديه مقابلات أخرى عديدة، من بينها استقبال وفود قبيلة المسيرية التى تمثل أحد الأطراف الرئيسية ذات الصلة بأزمة أبيى.
وأجاب الرئيس البشير على كل التساؤلات التى طرحت بالصراحة التى عرفت عنه، وتحدث بقدر من التفصيل عن الهجوم الذى وقع على مدينة أم درمان، وأشار إلى أن حركة العدل والمساواة ليست سوى الواجهة العسكرية لحزب المؤتمر الشعبى الذى يقوده الترابى، وأن هذه الحركة لا علاقة لها بأزمة دارفور، وأن الهدف هو الصراع على السلطة فى الخرطوم، واستعرض الرئيس الملامح الرئيسية للأزمة وقال لقد سلمنا الملف فى البداية للرئيس التشادى إدريس ديبى، لأن تمرد دارفور يعتمد على البعد القبلى، ولكن ديبى فشل فى السيطرة على قبيلته "الزغاوة" ، الأمر الذى انتهى إلى التطورات المعروفة والأزمات المتكررة فى العلاقات السودانية التشادية التى أصبحت تبدو مستعصية على الحل.
كان من الطبيعى أن تحتل الأسئلة عن أزمة دارفور وكيفية حلها معظم الوقت الذى أتيح لنا، وكان من بين ما قاله الرئيس البشير إن 90% من مساحة إقليم دارفور آمنة، وأن هناك جهات خارجية لا تريد لهذا الملف أن يُطوى، وذكر أن حركة تحرير السودان ( فصيل منى اركوى) التى وقعت على اتفاق أبوجا فى مايو 2006 كانت تمثل 80% من قوات التمرد فى دارفور، وأن فصيل عبدالواحد نور الذى لم يوقع التزم بوقف إطلاق النار، وأن المجتمع الدولى ممثلا فى 18 جهة وقعت على الاتفاق تعهد بأن أى فصيل لا يوقع على الاتفاق سوف يعاقب، ولكن الذى حدث بدلا من ذلك، كان هو تشجيع الفصائل غير الموقعة بأشكال مختلفة على الاستمرار فى التمرد.
كما تطرق الرئيس إلى موضوع المحكمة الجنائية الدولية، وقال لقد فوجئنا بان مؤسسة عدلية دولية تتحدث عن محاولتها خطف طائرة ركاب مدنية، وبذلك تحولت إلى جهة إرهابية، وكان الرئيس يشير بذلك إلى إعلان لويس اوكامبو المدعى العام للمحمكة الجنائية الدولية عن محاولة إنزال الطائرة التى كان يستقلها وزير الشئون الإنسانية أحمد هارون فى طريقة إلى الحج، باعتباره متهما مطلوبا للمثول أمام المحكمة فى لاهاى، بعد أن رفضت الحكومة السودانية تسليمه.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى التقى فيها الرئيس البشير، لذا لاحظت أنه يبدو مشغول الذهن بشكل ما، رغم حرصه الواضح على التباسط معنا، وعدم إشعارنا بأن هناك سقفا زمنيا للقاء الذى استغرق زهاء ثلاثة أرباع الساعة، إلا أن حوارا صامتا بلغة العيون جرى بين محجوب فضل المستشار الصحفى للرئيس البشير، وأيمن بديع القنصل المصرى العام الذى رافقنا إلى اللقاء، أعطانا إشارات غير مباشرة بالاختصار والاكتفاء بما خرجنا به.
فى طريقنا إلى الفندق كان ليل الخرطوم قد أوشك على الانتصاف، وكان لدينا موعد فى الصباح التالى، وكانت المجموعة كلها فى غاية الإرهاق بعد يوم طويل بدأ فى الحقيقة من مساء السبت.
موعد فى القصر الجمهورى
انطلقنا إلى موعدنا مع سلفا كير، فى مكتبة بأحد أجنحة القصر الجمهورى، الذى شهد الكثير من الأحداث الجسام التى مرت بالسودان، ولعل أشهرها مقتل الجنرال غوردون باشا على سلالم هذا القصر مع انتصار الثورة المهدية واستيلائها على الخرطوم عام 1885.
فى انتظار النائب الأول للرئيس جلسنا فى قاعة استقبال دائرية، كان من الواضح أنه قد تم تجديدها بطريقة أعادت لها رونقها المعمارى العريق، واستقبلنا مدير مكتب الفريق سلفا الذى يشبهه إلى حد بعيد، إلا أن سلفا كير أطول قامة، حيث ينحدر من قبيلة الدينكا الجنوبية المشهورة بالقد السمهرى والقامات السامقة. بعد أن دخل سلفا كير إلى القاعة صافحنا بمودة، ودار حوار قصير حول اللغة التى يجرى بها الحوار، وكان الطلب إليه أن يتحدث باللغة العربية، فقال إنه يتحدث بلغة عربى "جوبا"، وأنه يخشى أن يكون كلامه غير مفهوم لنا، ولكننا أكدنا له أننا نفهم الدارجة السودانية، والمفاجأة أنه تحدث بعربية طلقة وواضحة تماما. ومن اللقطات الطريفة أن الأستاذ محمد حسن الألفى سأله عن سر قبعته الشهيرة ذات الطراز الأوروبى، والتى يظهر بها معظم الوقت، فقال الفريق سلفا فى بساطة إنه كان يخدم فى الجيش السودانى عام 1976، وأنه فى إحدى الإجازات اشترى قبعة من أحد الأسواق، وأن زملاءه قالوا له إنها تليق به كثيرا، وأنه تعود على ارتدائها منذ ذلك الزمن، وأن ذلك ليس تعبيرا عن هوية أو تشبهاً بأحد.
استغرق اللقاء وقتا طويلا كان سلفا كير حريصا خلاله -بقدر من الاستفاضة - على توضيح المنطلقات الأساسية لرؤى الحركة الشعبية والتطورات التى مرت بها، والمنطلقات التى تحكم سياسات الحركة الشعبية اليوم، وأكد على وحدوية الحركة منذ تأسيسها، وقال أنه لا عودة إلى الحرب بعد الآن، وشدد على أنه رئيس الحركة وأنه يضمن الكلمات التى يقولها، وقال إننا فى الحركة الشعبية مقتنعون أن اتفاقية السلام الشامل تمثل الحل لكل مشاكل السودان وليس الجنوب فقط. وقال إن هناك انفصاليين فى الجنوب كما يوجد أيضا انفصاليون فى الشمال، وأن عملية بناء الثقة بعد سنوات الحرب الطويلة مسألة ضرورية للحفاظ على الوحدة. كما تطرق إلى أهمية المساعدة على تنمية الجنوب وأن العالم العربى ومصر بالذات عليها مسئولية كبيرة فى ذلك، وأن المفاهيم التى أنتجتها سنوات الحرب فى الجنوب مازالت قائمة، لأن الفرد العادى لم يشعر بحدوث التغيير.
فى هذا السياق كرر الفريق سلفا رؤيته المعهودة عن احتمالات الوحدة والانفصال، والتى تتسم بقدر من الغموض، وقال لنا إن صوته كفرد ليس مؤثرا، وانه إذا قرر الجنوبيون الانفصال فيجب احترام قرارهم، وأنه لذلك يجب العمل بجد من أجل تشجيع التنمية لتغيير الأوضاع. فى هذه النقطة قال إنه تحدث مع الرئيس مبارك وأشاد بمصر ودورها فى تقديم الخدمات التعليمية فى الجنوب وتقديم المحطات الكهربائية لإنارة أربع مدن هى واو ويامبيو ورومبيك وبور وإقامة مركز طبى فى جوبا.
وعن الموارد الهائلة التى تحصل عليها الحركة الشعبية من حصة البترول وعدم ظهور ملامح تغير فى أحوال الجنوب إلى الأحسن بالرغم من ذلك، قال سلفا كير إن هناك تنمية ولكنها تمثل قطرة فى بحر، حيث يعانى الجنوب من انعدام البنيات الأساسية بالكامل، وأن الحركة لديها نفقات هائلة لتحويل قواتها من حركة متمردة إلى قوات نظامية ذات ضبط وربط وتسليح وتدريب وإعاشة ورواتب، وأن هذا يستنزف الكثير من الموارد.
قبل نهاية اللقاء أشار لنا الأستاذ وليد سيد نائب رئيس مكتب المؤتمر الوطنى بالقاهرة، والذى رافقنا طوال فترة الزيارة وبذل جهدا فائقا لإنجاحها، إلى أنه يجب أن نتحرك سريعا لأننا تأخرنا عن موعدنا مع الدكتور نافع على نافع، الذى يقع مكتبه فى ناحية أخرى من القصر، وإن كان يتسم بالبساطة والتقشف الواضح.
رجل التنظيم القوى
استقبلنا الدكتور نافع الذى يوصف بأنه الرجل القوى فى حزب المؤتمر، بترحاب واضح، وكان من الواضح منذ اللحظة الأولى أن الرجل يتسم بالمباشرة والوضوح، وأنه يؤمن بأن أقصر الطرق للحقيقة هو الخط المستقيم، ولذا جاء حديثه متدفقا بعبارات قصيرة وقوية، تتسم بأقصى درجات المباشرة دون محاولة استخدام اللغة الدبلوماسية التى تشير من بعيد أو تحمل أكثر من معنى، وقد تطرق مباشرة إلى تقديم تحليله إلى جوهر الأزمة التى يواجهها السودان، ولخصها فى القول إن السودان يواجه استهدافا من الخارج، خاصة بعد انفراد أمريكا بالعالم، وأن أفريقيا هى المكان الوحيد الآن المتاح للتوسع، وأن السودان – فى هذا الإطار - له موقع فريد فى أفريقيا وفى العالمين العربى والإسلامى. وأن طبيعة هذا الاستهداف استئصالية، ومشاكل السودان الحقيقية ليست فى الجنوب أو دارفور، وليست مع هذه الدولة أو تلك من دول الجوار، وإنما مع الدول التى تسعى للاستئصال، ولذا فإن الخطة العامة للمواجهة تقوم على تطبيع العلاقات مع دول الجوار، مع تقديم أقصى التنازلات الممكنة لفرقاء الداخل عبر التسويات المتعددة حتى لو لم تكن عادلة لقطع الطريق على ذرائع التدخل الخارجى.
وشدد الدكتور نافع على أن هناك محاولات لتغيير النظام عبر الانتخابات المنصوص عليها فى اتفاقية نيفاشا، ولكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا عبر تحالف كامل بين القوى المعارضة ضد المؤتمر الوطنى، غير أن هذا التحالف لا يمكن تأسيسه على برنامج خدمات أو تنمية لأن الواقع الماثل لا يساعدهم فى ذلك، ومن ثم فليس هناك منطق سياسى أو برنامج خدمى، ولذا يتم الرجوع إلى النعرات الاثنية والقبلية والعمل على تركيز فكرة المركز والهامش.
وقد استطرد الدكتور نافع فى حديث ذى شجون، وقدم توصيفاته وتقديراته للقوى السياسية القائمة وطريقة عملها وحذر من الانخداع ببعض الخطابات الزائفة التى تقول كلاما وتفعل عكسه فى الواقع، وأشار إلى أن اتفاق التراضى الوطنى وجه ضربة قاصمة لحسابات عديدة، واختتم فى النهاية بعد أن شرح رؤيته لطبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب ولطبيعة المجموعات التى تشتمل عليها الحركة الشعبية، بالقول إن اتفاقية السلام الشامل تعبر عن برنامج سياسى لسودان المستقبل أكثر منها قسمة سلطة وثروة، وذلك لكى نرى أن كانت هناك امكانية للوحدة أم نذهب كل فى طريق.
فى مكتب وزير الدولة للإعلام
انطلقنا بعد ذلك للحاق بموعدنا مع الدكتور كمال عبيد وزير الدولة للإعلام، والذى كان يشغل قبل ذلك موقع أمين العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر، وصلنا بعد أن اجتزنا منطقة وسط الخرطوم التى تتسم بكثافة مرورية تذكرنا فى بعض الأحيان بالاختناقات المرورية فى القاهرة.
والدكتور كمال عبيد فى الأصل أستاذ جامعى يتسم بالهدوء والتهذيب الشديد وهو من نوعية الناس الذين يعملون فى هدوء تام، ونظرا لخلفيته العلمية فهو دقيق فى اختيار تعبيراته ومفرداته، ويتسم بالقدرة على تقديم شروحات مسهبة لأى قضية يتصدى لها دون إشعارك بالملل أو أنه يحاول إقناعك أو اجتذابك إلى وجهة نظره، بل يقدم لك وجهة نظر متكاملة ويترك لمستمعيه، مساحاتهم الخاصة للتفكير وتقليب الآراء. وقد تحدث لنا مطولا عن الفلسفة التى تحكم توجهات النظام الحالى، والتحديات التى تواجهه وطبيعة الفلسفة التى أنتجت الدستور القومى الانتقالى الذى يعترف بالتعددية ويسعى إلى تكريس صيغ العيش المشترك.
غداء على النيل
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة ظهرا، فانتقلنا إلى موعد الغداء فى مركب نيلى، مع مجموعة من المثقفين السودانيين، كان على رأسهم الأستاذ على شمو المثقف المعرف ووزير الإعلام الأسبق، ورئيس المجلس القومى للصحافة فى الوقت الحالى، والدكتور محى الدين تيتاوى أمين الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، وكذلك الدكتور محمد محجوب هارون الكاتب المرموق والأستاذ بجامعة الخرطوم ورئيس مؤسسة اتجاهات المستقبل، والدكتور الصادق الفقيه الذى حرص على استقبالنا، ثم غادر مبكرا لكى يلحق بالطائرة التى أقلته إلى أديس أبابا، والدكتور ربيع عبدالعاطى مستشار وزارة الإعلام والرئيس السابق لوكالة الأنباء السودانية، وعدد من أعضاء المجلس الوطنى، وبعض الإعلاميين الذين حرصوا على إجراء بعض الحوارات الصحفية والإذاعية مع أعضاء الوفد.
وكان على رأس الحاضرين فى الغداء السفير عبدالمنعم الشاذلى الذى يتسم بقدر كبير من النشاط والتواضع والقدرة على التواصل مع الآخرين، ولذا أحرز نجاحات واسعة منذ وصوله إلى الخرطوم ، عبر قدرته على الإمساك بسرعة فائقة بمفاتيح الشخصية السودانية التى تنفر من الالتزام الصارم بقواعد البروتوكول وتعتبره يمثل نوعا من التعالى غير المحبب.
وفى المساء كان حفل العشاء الذى أقامه السفير الشاذلى بمقر إقامته على شرف المجموعة الزائرة، بمثابة فرصة ثانية لحوار آخر مع مجموعة من أبرز كتاب الأعمدة والرأى فى الصحف السودانية، كان من بينهم الأستاذ الهندى عز الدين والأستاذ عادل سيد أحمد خليفة، اللذان استمتعت بالحوار المكثف معهما لما يقارب الساعتين، لكى نغادر بعدها بسويعات قليلة فى فجر الثلاثاء عائدين إلى الوطن.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة