تحت هذا العنوان نشر أندرو ناتسيوس المبعوث الأمريكى السابق لأزمة دارفور، مقالاً مطولاً فى العدد الأخير من مجلة فورن أفيرز الأمريكية واسعة النفوذ والانتشار، وناتسيوس شخصية مهمة وذات تأثير فى السياسة الأمريكية تجاه السودان، إذ سبق له أن تولى منصب مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وهو صاحب صوت عال فى ردهات الكونجرس وأروقة جماعات الضغط الأمريكية.
ورغم أن ناتسيوس قدم قراءة متحيزة فى كثير من جوانبها، كما اعتمد فى تحليله لأزمة دارفورعلى العديد من الأرقام والمفاهيم والمصطلحات التى تعبر عن وجهة النظر الأمريكية، والتى مازالت فى كثير من أجزائها محل جدل، وأخذ ورد واسعين، بما فى ذلك تعارضها فى كثير من المواضع مع تقارير لجنة تقصى الحقائق الدولية، التى أرسلها مجلس الأمن فى وقت سابق، إلا أن الاستخلاصات التى انتهى إليها الرجل، جديرة بالقراءة والتفكير وتدق جرس إنذار كبير ليس للسودان فقط، وإنما لكل دول الجوار التسع التى تشترك معه فى الحدود وعلى رأسها مصر بطبيعة الحال.
فهو يقول إن الأزمة الحالية فى السودان هى فى الحقيقة أشمل وأخطر من حصرها فى دارفور، وأن هناك مؤشرات عديدة ثير المخاوف حول بقاء السودان نفسه كدولة، وأشار إلى أن العام القادم 2009 ربما يكون هو الأهم فى تاريخ ما بعد الاستقلال السودانى، فإما أن ينجح السودان فى إجراء انتخابات تعددية حرة ونزيهة، ويضع نهاية لعقدين من الحكم الحالى أو يتفكك ويتناثر إلى أجزاء، ويدخل منطقته القابلة للتفجير فى واحدة من أشد أزماتها ضراوة.
فى هذا السياق يسرد ناتسيوس بقدر من التفصيل التوترات الناجمة عن الخلافات، التى تواجه تطبيق اتفاقية نيفاشا والتى نتج عنها العديد من الأزمات بين المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية، والتى كادت أن تعصف بالاتفاق وتقود الطرفين إلى مزالق الحرب من جديد، وأشار أيضا إلى التوترات الكامنة فى شرق السودان وشماله، وإلى ما أصبح يعرف فى السودان على نحو واسع باسم نظرية المركز والهامش، وأن هنالك" توترات قديمة بين عرب وادى النيل الذين انفردوا بالسلطة على مدى قرن كامل، وبين الجماعات المهمشة على أطراف البلاد.
وفى النهاية يوصى ناتسيوس صانع القرار الأمريكى بعدم التركيز على دارفور وحدها، وينادى بإحداث توازن فى السياسة الأمريكية، وبذل جهد أكبر لإنجاح اتفاق نيفاشا، وبأن واشنطن لن يتسنى لها النجاح سوى بسياسات عمليه لا تقوم على مواجهة الخرطوم، وإنما على التعامل معها وكسبها إلى صفها حتى لو واجه ذلك اعتراض الحركات المناصرة لدارفور. إن تحليل ناتسيوس فى جوهره مصيب تماما، ويقول إن هناك أخطاراً حقيقية تهدد وحدة السودان، والأهم من ذلك أن وجهة النظر هذه، ثم التوصيات التى بنيت عليها، توضح أن هناك فرصة حقيقية لإحداث تفاهمات واسعة مع واشنطن، التى هى بلا شك اللاعب الرئيسى الأكثر تأثيرا فى الأزمة السودانية من خارج السودان.
ولا أحد يدرى لماذا تقف مصر حتى هذه اللحظة، وهى الدولة الأكثر تأثراً على الإطلاق بما يجرى فى السودان، مثل المتفرج أو المتابع عن بعد، رغم النداءات المتكررة التى وجهت إليها من قوى سياسية أساسية فى السودان؟ وباستثناء القوات المصرية، التى تقرر اشتراكها فى القوات الهجين فى دارفور، فإن سياسة مصر تجاه الأزمة السودانية، تظل كمن يداوى مريضاً يحتاج إلى تدخل جراحى، بإعطائه قرصاً أو(أقراصاً) من الأسبرين.