أظن أن أزمة الديمقراطية فى العالم العربى، ليست أزمة نظم بقدر ما هى أزمة ثقافة، يدور فى فلكها مقاربات شديدة التعقيد، تتصادم مع بعضها طوال الوقت، وتستدعى حالة التشويش لمواجهة أطروحات المدنية الحديثة، وأول ما تصدم به الموروث الثقافى الدينى نتيجة القصور فى فهم النص، وتحديد الأطر الأساسية للتعاطى دينياً مع مثل هذه القضايا، كما أصبحت العقلية العربية جاهزة، لإسقاط فكرة المؤامرة على كل شىء، وفى النهاية أفلس العقل العربى فى صناعة " النموذج الخاص " بالديمقراطية، وأصبحنا أمام حالة من " الاستعصاء الثقافى " لا تقبل الرهان على تقدم عجلة الزمن، على الرغم من أنها ظاهرة مدنية مرنة قابلة للتطبيع مع خصوصية المجتمعات، فالعرب ليسوا مطالبين بمحاكاة نموذج بعينه، بقدر ما هو مطلوب منهم تجاوز مرحلة الردة الحضارية التى يغطون فى سباتها العميق.
وأتصور أن الأمر بالنسبة لمصر يعد متميزاً بقدر ما عن غيرها من جيرانها العرب، حيث عرفت ملامح الديمقراطية فى وقت سابق، وإن لم تصنع نموذجاً متكاملاً لتجربة ذات خصوصية ، حيث كانت أقرب إلى النمط الأوروبى نتيجة الانفتاح الثقافى على أوربا تحديداً منذ عهد الخديوى إسماعيل، وحتى الانقلاب الثورى فى يوليو 1952، وبعد هذا التاريخ، بدأت الكاريزما والسياسة الأحادية هى النظرية السياسية التى تحكم هذا الجزء من العالم فى ظل غياب شمس الحضارة عن الأمة، وتاهت مشروعات النهضة، وجاء مشروع الصراع العربى الإسرائيلى ليحتل مكانة الصدارة على أولويات النظم والجماهير نفسها التى ارتضت هذا الانحصار على حساب نفسها، فلا أفلحت النظم فى حل القضية ولا ارتمت الجماهير فى أحضان الديمقراطية، وأصبحت النظرة المجتمعية لوظيفة الحكم فى البلاد العربية هى نظرة الولاة والرعية مع توالى الهزائم العربية.
فالملاحظ أن الديمقراطية انحصرت بحسب المصالح المتوقعة منها، فإذا كان المطلوب هو تغيير القيادة والحكم، فالديمقراطية فى هذه الحالة هى الحياة الحزبية، وإذا كانت المسألة هى تصعيد قوة سياسية بعينها، فالديمقراطية هى صندوق الانتخابات، والممارسات التى ظهرت فى هذه الحالة صعبة التصور، " جبهة الانقاذ " فى الجزائر وصلت إلى الحكم عبر اتصال المنابر بصناديق الانتخابات، وإذا كان هناك صدام أيديولوجى فالديمقراطية هى مباراة صراعية بين الدين والعلمانية.
ويخطر ببالى أن الذين ينادون بأهيمة التحرك نحو خطوات عملية ملموسة إزاء " قضية الديمقراطية " فى مصر، لفت انتباههم الظرف الزمنى الراهن على أنه قابل لفتح ملفات من هذا النوع، غير أن معاول هدم كثيرة تتقصد هذه الأصوات، وتسمم مقاصدها، وفى اعتقادى أن النخبة التى تطرح الرؤى الخاصة بهذا الدور مؤهلة بالفعل لاستقطاب المجتمع لاستيعاب حواراً مجتمعياً على نطاق موسع لا ينقصه سوى الإرادة الحقيقية لتفعيله، هذه الإرادة يجب أن تتفق على أبجديات قضية الديمقراطية أولا ً.
هناك إشكاليات ورواسب ترسخت فى الذهن العام مطلوب إزالتها للتوافق على الإطار المحدد للنموذج المطلوب، فالردة الثقافية والمعرفية التى شهدتها مصر عبر العقود الثلاثة الأخيرة، افقدت الديمقراطية معان كثيرة على كل المستويات بدءاً من نظم الحكم الرسمية مروراً بالانفتاح السياسى والأهم وهو الممارسة العملية لحالة الديمقراطية كهدف ووسيلة، لتحقيق أهداف ومصالح وطنية أكبر، عندها يصبح الخيار الديمقراطى حق تقرير مصير، وليس منحة أو ضغط خارجى. أبجديات هذا الحق هو أن الشعب فعلياً مصدر السلطات من خلال دستور وقوانين تتسق مع روح الفكرة والهدف منها، فمن غير المستساغ فى حالة التحول الديمقراطى أن يقود حزب أحادى مسيرة التحول الديمقراطى، لأن الرؤية الأحادية هى مؤامرة على الديمقراطية نفسها ، فى حين أن مهمة مرحلة الانفتاح السياسى هى نشر ثقافة الديمقراطية وممارستها، من خلال بناء أحزاب وتأصيل حقيقى لمجتمع مدنى ثم بناء دستور وقوانين، ويتوازى مع ذلك تفعيل مبدأ المواطنة الكاملة بمعناها الواسع كفكرة أقرب إلى المساواة فى الحقوق والواجبات.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة