45 دقيقة هى الفاصل الزمنى من مدينة المنيا ودير السيدة العذراء بجبل الطير، المزار الأثرى الذى بنى مكان إقامة العذراء والمسيح ويوسف النجار بعد هروبهم من الملك هيرودس الذى أراد قتل الطفل بمجرد مولده. مظاهر الطبيعة الفريدة للجبال على طول الطريق المؤدى إلى الدير تجعلك لا تشعر بالمسافة، حتى تفاجأ بالدير قائماً أمامك فى شموخ.
"وصلنا"، نبهنا السائق، ثم أشار إلى سلم منحدر رأسياً فى الجبل يؤدى إلى الدير: "الناس بتطلع من هنا عشان تاخد بركة"، أنزل يده، وكان علينا تسلق حوالى 170 درجة فى ظهيرة واحد من أيام يونيو شديدة الحرارة.
أصوات، ألوان، حركة، مراجيح، أطفال، ضحكات، "فتح عينك تاكل ملبن".. "مولد" بكل ما تحمل الكلمة من معان، توقفنا عند "المدفع" الذى تجمع حوله الشباب يتسابقون لإظهار قوتهم. "إحنا أصلاً صنايعية عندنا شغلنا، بس بنيجى الموالد عشان لقمة العيش بتبقى كويسة"، هذا ما قاله محمود صاحب المدفع، ثم تنهد: "بس مولد العدرا، ومولد الحسين بالذات ليهم بركة خاصة، كلنا بنحس بيها".
النيشان، ثم المسرح، ثم الساحر الذى يدعو الناس للمشاهدة عبر الميكروفون، ويحذرهم من "النشالين", وإلى جواره لاعب الـ "3 ورقات" أمام منضدته الملونة، يقف حوله البسطاء من سكان القرى المجاورة للدير، ويندس وسطهم أتباعه الذين يعملون كـ"طعم" لاصطياد الزبائن.
فى طريقنا إلى الكنيسة، مررنا بالوحدة الصحية، عاملة الوحدة قالت إن الزحام الشديد لا يعوق عملهم: "كتير بيجيلنا عيال راسهم مفتوحة، أو واحدة بتولد، أو واحد عنده إسهال، والدكتور بيعالجهم، والناس بتبقى زى الفل وبتستحمل عشان هى بتحب ده".
الأستاذ عيد مدرس اللغة الإنجليزية بمدرسة جبل الطير يستغل فترة المولد ويستأجر خيمة يبيع فيها الحلوى والمياه الغازية، "كل سنه بأجّر من المطرانية حتة الأرض دى, ليا معارفى بيعملوا لى تخفيض، بقعد طول أيام المولد، وأحياناً ببات فى الخيمة، محدش بينام فى المولد". عيد يستأجر الأرض بـ250 جنيه طوال مدة المولد، فى حين أن جاره يدفع 600 جنيه فى إيجار خيمة ماثلة، أما إيجار مساحة أكبر للمراجيح فيصل إلى 1000 جنيه: "زوار المولد السنة دى أقل بكثير من السنة اللى فاتت ممكن يكون ده بسبب أحداث دير أبو فانا، الحاجات دى بتعمل قلق عند الناس، لكن للأمانة أنا ملاحظ قلة العدد من بداية المولد قبل الأحداث".
كانت هناك عربتان للأمن المركزى بجوار خيمة عيد، قال عنهما: "دول عاملين المدرسة نقطة عمليات عشان المولد, وكل شوية يخدوا حاجتنا، إمبارح سحبوا منى كرسيين كانوا بره الخيمة، ودفعت على الواحد 25 جنيهاًَ عشان أخدهم تانى".
استكملنا طريقنا نحو الدير الذى يقال إنه بنى فى عهد الإمبراطورة هيلانة سنة 328 ميلادية، يأتى سكان القرى و المراكز المجاورة للمولد كل عام، تبدأ رحلتهم بزيارة الكنيسة الأثرية، وكنيسة القديس أبو مقار، ثم قضاء باقى الأيام فى الاستمتاع بمظاهر المولد.
عائلة من أب وأم وأربعة أطفال يجلسون على المصطبة الخارجية لمنزل مبنى بالطوب الأحمر، قالت الأم: "إحنا أول مرة نيجى المولد، أجرنا البيت ده بـ 30 جنيهاً لمدة 3 أيام، وكل البيوت اللى حوالينا دى متأجرة, أصل الناس الغلابة اللى زينا بيعتبروا المولد ده المصيف بتاعهم"، أغلب سكان القرية يستغلون فترة المولد لتأجير البيوت للزائرين، تجمع الأسرة أثاثها فى غرفة واحدة تاركة باقى الغرف لضيوف المولد، ويصل الإيجار أحياناً إلى 50 جنيهاً فى اليوم، كما أخبرنا أفراد الأسرة. وليس غريباً أن ترى فى المولد أسرة يبدو على ملامحها الفقر تجر عنزة أو جدياً لتقدمه نذراً بالكنيسة، وأصحاب البيوت لا يفوتون هذه الفرصة، فيحصل صاحب البيت على ربع الذبيحة، ولا مجال للتفاوض حول هذه النسبة.
المولد يزوره عدد كبير كل عام، مسيحيون ومسلمون، ولا يمكن التمييز بينهم ظاهرياً، فالسيدات يغطين رؤوسهن بالزى التقليدى للمرأة الريفية، الإيشارب الملون للشابات، والطرحة السوداء لكبار السن.
أم عماد تدق الوشم الدينى، صلبان، صور قديسين، وأشكال مختلفة للعذراء، عرضت علينا "سرنجات" فى أكياس بلاستيكية مغلقة بدبابيس: "كل الإبر اللى بندق بيها الوشم بتاعة وزارة الصحة ومعقمة، إحنا كل سنة بنيجى أنا وأولادى، عندنا بيت هنا بنقضى المولد فيه، وبرضه بنسترزق، أنا الكل بيجينى مسلمين ومسيحيين، وكل واحد منه لربه".
بالقرب من الكنيسة الأثرية فوق الجبل، كانت هناك زفة وأغان وزغاريد أطلقتها أم لطفلة عمرها أربعون يوماً، بعد تعميدها بالكنيسة, حيث تعود الأهالى على الحضور لتعميد أولادهم وفاء لنذر أو لنوال بركة العذراء.
الزحام يشتد أمام الكنيسة، الكل يتدافع للدخول، و"خدام الكنيسة" فى الداخل ينظمون حركة الزائرين المصطفين أمام باب حديدى يفصلهم عن المغارة الجبلية التى احتمت بها العذراء وطفلها منذ أكثر من ألفى سنة.
داخل الكنيسة، على يسار الهيكل أيقونة العذراء، تتقدمها شموع يضيئها الزوار أملاً فى تحقيق مطالبهم، البعض يأخذ كميات قليلة من الرمال التى وضعت بها الشموع، "هنرشها فى البيت عشان تباركنا وتبارك مواشينا وزرعنا" هكذا قال شاب انشغل بملء كيس صغير.
بعيداً عن الكنيسة وفى قلب القرية تعالت أصوات غناء وموسيقى وتصفيق، حوالى 200 فرد تجمعوا فيما يشبه حلقة ذكر، القس أشرف المسئول عن الجماعة قال: "أولاً ممنوع التصوير، ده اجتماع رسولى لطايفتنا التابعة للطايفة الإنجيلية، والهدف منه هو جذب المسيحيين للصلاة.
بعد الحلقة كانت هناك مسيرة لشباب يحملون أعلاماً عليها صلبان وصور للعذراء، قالوا إنهم يتبعون كنيسة أرثوذكسية بالقاهرة، ويأتون كل عام للمشاركة فى احتفالات المولد.
المزيد من الزوار كانوا يتوافدون لقضاء الأيام الباقية فى المولد الذى ينتهى رسمياً الخميس، آخر وجه قابلناه كان جرجس من سمالوط، سألناه: "ألا يمكن أن يستغل بعض مشعلى الفتنة وجود كل هذا العدد من المسيحيين لإثارة أزمة جديدة؟" ابتسم وقال: "فى ناس بتقول كده كل سنة، لكن إحنا اتعودنا على الكلام ده, وعرفنا إنه كلام وبس، الناس هنا بتحب بعضها، وده كفاية قوى إنه يحميهم".
"حلقة الذكر" الانجيلية فى المولد

************************************************************************************
مسلمون يشاركون

************************************************************************************
مزمار فى زفة المعموديه

************************************************************************************
خشوع أمام شموع العذراء

************************************************************************************
زوار المولد يتسلقون درجات سلم جبل الطير

************************************************************************************
طهى الطعام فى الخيمة

************************************************************************************
مراجيح المولد

************************************************************************************
بيع وشراء

************************************************************************************
مدخل كنيسة السيده العذراء

************************************************************************************
مسلمون ومسيحيون عند ايقونة السيده العذراء

************************************************************************************
كنيسة السيده العذراء الأثريه

تصوير أحمد إسماعيل