تعد الصوفية إحدى الدعائم الأساسية فى التركيبة الشخصية للمواطن البسيط فى السودان، فكل فرد أو حتى مسئول له شيخ يحترمه ويقدره ويقف عنده ودائماً ما يطلب منه أن "يشيل له الفاتحة" أى يقرأ له الفاتحة، ويدعو له بالبركات.
فى الخرطوم تكتشف أن المدائح الدينية تملأ الشوارع والإذاعة والتليفزيون والتاكسى، وحتى فى العربات الخاصة، ومن أشهرها مدائح الشيخ "عبد الرحيم البرعى" المعروف بشيخ السودان كله، والذى كان يقف ببابه الجميع بدءاً من الرئيس، نهاية بالمواطن البسيط.
الصوفية والمجتمع السودانى
الطرق الصوفية لها سلطانها القوى على الشارع السودانى جماهيرياً وسياسياً، فتوجد فى السودان حوالى 40 طريقة صوفية أشهرها: القادرية، والختمية، والمهدية، والتيجانية، والسمانية، وهذه الطرق منتشرة فى كل أرجاء السودان، وممتدة إلى دول الجوار فى نيجيريا وتشاد ومصر وغيرها.
وتتنافس هذه الطرق فيما بينها على الشارع السودانى، ويساعدها فى ذلك التنشئة الدينية فى المجتمع نفسه، فالمواطن السودانى متصوف بالفطرة، لذلك تجده ينجذب إلى مثل هذه الطرق بل يقدسها أحياناً. ومن جانبها تقوم الطرق بالتواصل الفعلى مع الناس عن طريق تقديم الخدمات مثل: إنشاء المدارس والمستشفيات والمعاهد الدينية والجامعات وكذلك "الخلاوى" لحفظ القرآن.
والخلاوى عبارة عن مدينة صغيرة يجتمع فيها الطلبة فى معيشة كاملة، العمل الوحيد بها هو حفظ القرآن. ويأتى إلى هذه الخلاوى طلبة من كل السودان ومن الدول المجاورة، يعيشون بها فترات تصل إلى7 سنوات، ويستطيع مريد الطريقة (تابعها) أن يطلب من شيخها إعانات مادية لحياته، من هنا كانت الصلة الوثيقة بين الطرق والمجتمع، حيث إن الطريقة الصوفية نفسها تضم مؤسسات داخلية، وكأنها دولة مصغرة، فهناك إدارة خاصة بالخلوة والمستشفى والمدرسة والمالية وغيرها، ويومياً لهم تقارير إلى شيخ الطريقة، وتعرف هذه العملية "بالمسيد"، وهى إدارة أعمال مؤسسات الطريقة.
والملاحظ فى السودان، أن شيوخ الطرق على درجات علمية كبيرة، فبعضهم أساتذة جامعات، ومنهم من درس بلندن ويجيد عدة لغات، مثل الشيخ "حسن الفاتح قريب الله"، الذى ألف أكثر من 100 كتاب أسهمت كثيراً فى تطور الفكر الصوفى وأدبياته. وهناك أيضاً من عمل سفيراً ووزيراً، مثل الشيخ كمال عمر، وكان الرجل الثالث فى زمن الرئيس الأسبق جعفر نميرى.
واستطاعت الصوفية أن تكسر الصورة الذهنية التى كانت مأخوذة عنها فى كونها مجموعة من الدراويش والمجاذيب، وسلكت مسلكاً آخر، استطاع أن يؤثر فى السياسة السودانية نفسها. هنا لا تتعجب أن ترى رجال السياسة يجتمعون برجال الصوفية للتباحث معهم فى أمر جلل يخص البلاد، ودائما يأخذون بنصائحهم لما لهم من تأثير كبير على الناس، وعلى من يريد التقارب مع السودانيين والتأثير فيهم أن يدخل عبر بوابة الصوفية.
يقول د.أحمد عبد العال عميد كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة الخرطوم، تتعدد الطرق الصوفية فى السودان، وتعتبر الطريقة القادرية ومؤسسها الشيخ "تاج الدين البهارى" من كبرى الطرق فى السودان لكثرة مريديها، وقد تفرع عنها العديد من الطرق. ويضيف عبد العال أن "التصوف يتعمق فى حياة السودانيين، فما من حاكم فى السودان إلا ويكن احتراماً للتصوف، كما أن هناك بعض السياسيين يسترشدون بنصائح المتصوفين، وسافر العديد من رجال التصوف لمقابلة جارانج الذى أكد لهم احترامه للصوفية فى السودان".
ويضيف عبد العال قائلا "إن التراث الذى خلفه المتصوفون عظيم، وينبغى النظر إليه بعين التدقيق، فكثير من الناس عندما يذكر التصوف يتداعى إلى أذهانهم صور الدراويش والخزعبلات، والتصوف برىء من هذا، فكلنا يعلم أن للحياة الشعبية مبتدعات وممارسات قد تدخل فى باب الفلكلور".
ولعب المتصوفون دوراً بارزاً فى التأثير على المجتمع السودانى، خاصة الشيخ عبد الرحيم البرعى، الذى كان شاعرا وناظما لمدائح وأشعار لها تأثيرها النفسى والعقلى على مريديه، حتى إنها دخلت فى تاريخ الأدب السودانى، وقام الرجل بدور إصلاحى من خلالها، ومن قصائده الرائعة قصيدة "مصر المؤمنة بأهلها" التى ذكر فيها بالخير كل أهل الصوفية فى مصر.
الخريطة الصوفية
يوجد فى السودان حوالى 40 طريقة صوفية، وتتميز هذه الطرق بأن لها انتشارها الجغرافى، فلكل طريقة مركز ثقل فى منطقة جغرافية بالسودان، ويؤكد ذلك الدكتور حسن مكى الخبير الإفريقى، فتتمركز الطريقة السمانية فى وسط السودان، وهناك مراكز صغيرة للسمانية فى غرب أم درمان ومدنى، والطريقة التيجانية منتشرة فى دارفور وبعض المدن الأخرى مثل: شندى والدامر وبارا والأبيض، إضافة إلى أم درمان والخرطوم.
وتنتشر الطريقة الختمية التى يتزعمها محمد عثمان الميرغنى فى شرق السودان وشماله والخرطوم بحرى. وينتشر أنصارها الذين يتزعمهم الصادق المهدى فى النيل الأبيض، والجزيرة وأم درمان. أما الطريقة القادرية فتوجد فى وسط السودان ومنطقة ولاية النيل – الجزيرة، وتتفرع إلى فرع الشيخ الجيلى والكاشفية والبدراب والطيب الشيخ عبد الباقى، وهناك أيضا طرق حديثة صغيرة، مثل البرهانية والتسعينية والدندراوية والأدارسة.
الصوفية.. أوراد وشعارات
تستخدم معظم الطرق فى السودان أوراد الطريقة الشاذلية، وكل طريقة لها أورادها الخاصة بها التى تميزها عن غيرها، وبعض الطرق لها "راتب" يُقرأ فيه جزء مقدر من هذه الأوراد كل صباح ومساء، مثل الأنصار، وتقرأ بعض الطرق الأذكار والاستغفارات، مثل السمانية وغيرها، وتعرف بعض الطرق كتابة التعاويذ ومداواة المرضى النفسيين.
ويقول الشيح محمد الحسن قريب الله: لكل طريقة شعار خاص بها، ولكن الطريقة السمانية ليس لها زى معين وأهم ما يميزها "الكرامة"، وهو حزام يشد به المريد وسطه، وهو مصنوع من الجلد، وذلك دلالة على الجد فى المسير، ونلتزم بالزى الأبيض وليس هذا فرضاً على السالكين، ومنهجنا فى الطريقة هو الإيمان بالله وبالرسل والكتب السماوية والملائكة، وبما جاء فى الأثر، وبهذا نسير على السنة المطهرة. ونختلف عن الطرق الأخرى فى أننا نبدأ أورادنا فى الثلث الثانى من الليل، ويكون هناك ورد فى السحر يزيد على ساعة ثم الأوراد التى تستمر لمدة ساعة، وبعدها الشروق، ثم خواتيم دبر كل صلاة، وهناك ورد المغرب بين غروب الشمس والعشاء، ويضيف: لنا أذكار فى يوم الاثنين والجمعة، وهذا الذكر لا يصاحبه "دف" ولا طبول ولا موسيقى ويصاحب الذكر تمايل، ليذكر العابد الله فى كل الجهات.
وعلى بعد 40 كم شرق الخرطوم فى ضاحية أم ضوبان، ذهبنا للشيخ الطيب الشيخ محمد بدر، شيخ الطريقة القادرية الذى قال "إن الطريقة القادرية أتت إلينا من بغداد فى القرن الخامس عشر، وانتشرت فى كل مدن وقرى السودان، وهى أساس لطرق صوفية كثيرة هنا، ولنا فروع فى نيجيريا والسنغال وفى مصر"، ويضيف "تختلف الطرق الصوفية فى أورادها وأدائها، ولكن النهاية واحدة وهى الوصول إلى الله تعالى، وهناك مدائح خاصة وأذكار لكل طريقة، ومنهجنا فى الطريقة هو القرآن الكريم. فبعد صلاة المغرب، يجلس الطلبة والمشايخ فى "الراتب"، وفيه نقرأ آية الكرسى وعدة آيات من سورة "يس" وبعد ذلك الفاتحة". ويقول الشيخ الطيب أيضاً "لدينا أنشطة كثيرة فقد أسسنا مستشفى ومدرسة ثانوية للبنات ومدرسة للقرآن ومركزاً للشرطة ومحكمة شعبية". يقول شيخ الطريقة التيجانية كمال عمر الأمين العمرانى "أورادنا هى الاستغفار والصلاة على الرسول ولا إله إلا الله، وللطريقة حاضرة يوم الجمعة وهى ذكر لله فقط بدون أى دف".
ورغم هذه الأوراد والأذكار للطرق الصوفية فى السودان، فإن لها وجهاً آخر، حيث تؤثر تلك الطرق بشدة فى الشارع السياسى لاعتبارات متعددة منها: أن العقل السودانى بطبيعته صوفى؛ ولأن كثيرا من الأحزاب تقوم على الطرق الصوفية مثل الاتحاد والأمة والإخوان المسلمين وبعض أنصار السنة، ومن ثم تهتم الحكومة بالصوفية وطرقها. ويقول الشيخ كمال عمر الأمين الذى كان أميناً عاماً للشئون السياسية فى الاتحاد الاشتراكى فى عهد الرئيس السودانى السابق جعفر نميرى "تؤثر السياسة على الشارع فى السودان وكل حاكم له شيخ بجواره".
الوراثة.. فى زعامة الطريقة
يقول الشيخ "محمد الحسن" شيخ الطريقة السمانية: الخلافة فى الطريقة السمانية بالوراثة، وهذا لا يعنى بأنها متاع يورث، ولكن يرجع ذلك لأن ابن الشيخ يكون قد تتلمذ على يد والده، وسلك الطريقة وعرفها والطريقة السمانية فى أماكن متفرقة من السودان فى شمال أم درمان وفى الوسط، ولها أتباع كثر فى الجزيرة، ولا تنحصر فى مكان معين ولها مساجد ومشايخ.
لكن الوراثة فى رئاسة الطرق الصوفية فى السودان ليست ظاهرة عامة، فالطريقة القادرية مثلا لا تقوم على الوراثة، ويقول الشيخ بدر الخليفة "عندنا، الخلافة ليست بالميراث، ولكن بالاتفاق على شخص معين". ومن الأمور التى تفتخر بها القادرية أنها من الطرق العريقة فلها مسجد تأسس منذ 162 عاماً وتحتفظ بنار مشتعلة منذ ذلك التاريخ لم تطفأ، حيث كان الطلبة فى الخلوة يشعلونها لقراءة القرآن الكريم، ولم تطفأ منذ ذلك التاريخ، وتسمى هذه المنطقة "أم ضوبان" أى المكان المضىء دائما وأصبحت تراثاً لدينا.
الصوفى.. أدوار متعددة فى السودان
ويرى محمد الحسن أن للشيخ الصوفى دوره المؤثر فى المجتمع وفى الدعوة إلى الإصلاح سواء كان اجتماعياً لفك الاشتباكات، أو سياسياً بنصح الحكام للسير عبر المنهج الإسلامى، كما أن له دوراً فى التعليم ببناء المدارس وتحفيظ القرآن؛ كل ذلك يتم داخل ما يعرف "بالمسيد" الذى يحتوى على مؤسسة تعليمية تربوية للعلوم الدينية والدنيوية وعلى مراكز صحية وخلوة، والمؤسسة الصوفية لها هياكل إدارية منتظمة.
ويرى الحسن أن للصوفية دوراً جاداً فى المجتمع، فالمتصوفة هم أدرى بمشاكل الناس، وفى السودان كان من الممكن أن تلعب الصوفية دورا كبيرا فى مشكلة دارفور، ولكن الحكومة هى التى بدأت بالحل. وقد لعب الشيخ حسن الفاتح قريب الله، دوراً مؤثراً فى إدخال الصوفية فى الجامعات، وتغيير الصورة الذهنية التى كانت مأخوذة عن المتصوفة بأنهم مجرد دراويش، بالرغم من أن درويش درجة متقدمة فى الصوفية.
الخلوة.. وتنشئة المتصوف
الخلوة من الأماكن المهمة فى تنشئة المتصوف، وهى مكان ينعزل فيه المتصوف عن الناس ويدخل فى جو من العبادة والذكر الطويل، حتى تتشبع نفسه بروح التصوف وتصفو من الشوائب. وتلعب الخلوة دوراً مهماً فى عملية تحفيظ القرآن الكريم، وهى أشبه بالجامعة العامة فى السودان، حيث يقصدها الكثير من الأفارقة لتلقى العلم والزهد وممارسة العبادة. وفى الخلوة التابعة للطريقة القادرية، جلسنا مع طلبة حفظ القرآن لنتعرف على طريقة الحياة فى الخلاوى.
يقول عبد العزيز من كردفان: "جئت إلى الخلوة منذ 3 سنوات، وحفظت من القرآن إلى سورة التوبة، وزرت أهلى فقط مرتين فى هذه المدة، وأقوم من الساعة 3 صباحاً إلى الخامسة أقرأ القرآن، وبعد صلاة الفجر نقرأ إلى السابعة ثم إلى الحادية عشرة، وبعدها نأخذ راحة إلى الثانية ظهراً، نواصل بعدها القراءة، ونصلى المغرب وننام فى تمام الحادية عشرة حتى الثالثة صباحا ونعاود مرة أخرى.
وقابلنا الشيخ عمر بدر المسئول عن الخلوة وقال "إن هذا "المسيد" تأسس على نظام معهد القاهرة الدولى، والذى يأخذ فيه الدارس 6 سنوات لحفظ القرآن وسنتين للتجويد، و4 سنوات قراءات، وبعدها يقبل فى الجامعة وبنينا معهداً علمياً حتى ينتقل إليه الدارس بعد الخلوة وبعدها للجامعة، ونؤسس فيها الآن أيضا، ونقبل الطالب فى المسيد من سن 15 إلى 70 سنة. وفى المسيد يكتب للطالب الآيات على لوح خشبى، وعندما يحفظها يغسله، ويعطى له الشيخ آيات أخرى.
ويقول الشيخ عمر "فى الخلوة يعيش الطالب، ويدرس مجاناً، ويمكنه أخذ إجازة للعمل فى مواسم الزراعة ليساعد نفسه"، والخلوة بها (1500) طالب من كل أنحاء السودان ومن دول مجاورة، ولذلك فهى تمازج بين كل الثقافات والأعراف، ويضيف "عندما يرى الخليفة فى أحد الطلبة، الصلاح والتميز يحفظه أكثر ويُدخله خلوة فى السكن، وفى كهف للتعبد لتربيته روحياً، وبعدما يتأكد من أنه على مستوى من خشية الله يسمح له بأن يذهب إلى مكان آخر لينشئ خلوة أخرى، وفى الغالب الخلوة تبدأ تحت شجرة ثم تتطور". وبعض الطرق الصوفية فى السودان تضع شروطاً لدخولها قد تصل إلى 29 شرطاً، وبعضها لا تقبل الطالب فى الخلوة، إلا بعد موافقة مكتوبة من أهله، ومن هنا ينشأ المريد داخل هذه البيئة، الأمر الذى يؤثر عليه طوال حياته، فتجد الفرد فى السودان فى طاعة كاملة لشيخه وله انتماء كبير لطريقه.
