بدأت معرفتى به من مدة طويلة، وتحديدا منذ أن علمت قدماى عشق التجوال فى شوارع القاهرة بلا هدف سوى احتضان أهلها بعينى واحتكاك أكتافى بجدرانها، وازداد عشقى لذلك مع أيام الدراسة فى كلية الآداب فى جامعة القاهرة.
وحين بدأت العمل فى التمثيل، وكان يسند إلىّ أى شخصية، كنت أضيف هدفاً على أهدافى السابقة للتجوال، وهى تلك المرة البحث عن الشخصية التى ألعبها وسط الناس، وحين أجدها أجد نفسى ملتصقاً بها، متعقبها ومراقبها.. وحتى بعد أن انتقلت إلى الولايات المتحدة لازمتنى هذه العادة وفى إجازاتى المتعددة أعود إليه وأبحث عنه وأتفحصه وأحاول أن ألحظ التغيرات التى مر بها والتى كنت سأحزن إن لم أستطع التعرف عليها.
عشقته ومازلت أحن إليه وأراه فى صحوى وفى غفواتى ـ لأنه مهما طال نوم الغربة فهو غفوة- ويرق قلبى لما مر به.. إنه الإنسان البلاستيك أو هكذا سميته أنا..
إنه الإنسان المصرى البسيط والذى مهما اختلفت الفوارق الضئيلة بين طبقاته فشغله اليومى هو القوت وكيفية الحصول عليه، ولا يمكن لك أن تشاهده قبل الواحدة بعد الظهر أو بعد الثامنة مساء.. دائماً ممسكاً بكيس بلاستيك رقيق محشو بما تيسر له الحصول عليه من غذاء، خبز، فاكهة خضروات، فراخ مجمدة.. إلى آخر القائمة مما تمن عليه به مصادر الغذاء معقولة السعر.. ضئيل الحجم مكسور العينين قلقاً يعدو سريعاً وكل ما يتمناه هو أن تطوية جدران بيته هو وما يحمله كيسه البلاستيك، يمتزج لديه شعور الفخر بما فى الكيس والخجل منه فى آن واحد..
ويمكن أن يكون مصدر الخجل هو معرفته الشخصية بالطرق التى كان عليه أن يسلكها للحصول على مافى الكيس البلاستيك.. حين تلتقى عيناك بعينيه لايقوى على النظر إليك طويلاً، فهو هكذا يود لو تقذفه الرياح إلى بيته دون النظر إلى أحد.. يعرف أنه ضيف على وطنه وعلى الدنيا.. اختلفت ألوان الأكياس البلاستيك إلى أن استقرت إلى اللون الأسود، والذى يدارى بداخله عورة الغذاء.. اختلفت أحجام الأكياس البلاستيك وأوزانها، ولكن ما ظل ثقيلاً على الروح هو هم الحصول على القوت لدى الإنسان البلاستيك.
وكنت أتندر مع الأصدقاء والذين شهدوا معى بداية علاقتى بالإنسان البلاستيك، حيث كنت أقول لهم إنى أعتقد أنه ينطلق من مبنى مجمع التحرير لينطلق فى طرقات وشوارع القاهرة، وعرفتهم على الطبيعة الإنسان البلاستيك، وكنت أترك لهم بعد زيارتى مهمة القيام بتفحصه نيابة عنى، حتى أعود مؤخراً.
بدأ تواجد الإنسان البلاستيك يقل، وأجتهد أكثر من الماضى لأجده واختفت الأكياس، ولكن بقيت الرؤوس المنكسة والعيون المكسورة، وحزنت عليه لأنى فى غربتى أمنى النفس بلقائه حين أعود للزيارة، وكنت أعرف أنه ينتظرنى وأننا سوف نكرر حوار الصمت بيننا.. أيها الإنسان البلاستيك الجميل القلب يا ملح الأرض.. يا من أغلق عينى كل ليلة عليك لتبقى بداخلى طيباً صبوراً وجميلاً حتى الصباح.. قلبى عندك لأنى أعرف سبب اختفائك وأعرف أيضا أن الطوفان قادم لا محالة، وأنه أنت ستبقى خلاله بإرادتك أو بدونها، وأعرف أيضا أن فئران سفينة مصر قد مصمصوها ولم يتركوا لك سوى الحسرة، وأنهم قد حزموا حقائبهم من مدة طويلة وينامون على صوت محركات الطائرات التى تنتطرهم ليهربوا من الطوفان بعد أن أكلوك وطحنوا عظامك.. لك أيها الإنسان البلاستيك انحنى وأبوس الأرض تحت نعلك بنفس الطاقة التى أمقت وأحتقر بها فئران السفينة..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة