إسلام عزام

المجتمع.. "كباريه" أشد قسوة من السينما

الجمعة، 27 يونيو 2008 12:22 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ربما نتحفظ على التقييم الأخلاقى للعاملين فى ملهى ليلى، أو نعترض على إبداء التعاطف معهم، ليس هذا هو المهم فى فيلم "كباريه"، لأن الأهم هو فضح المنطق الازدواجى الذى نعيش جميعا فى ظل طغيانه علينا.
الفيلم الذى كتبه أحمد عبد الله بعمق جديد عليه، وأخرجه سامح عبد العزيز بحرفية جديدة أيضا عليه، قدم تشريحا لمجتمعنا الازدواجى من خلال مقطع عرضى لهذا المجتمع، باختياره "كباريه" درجة ثالثة مسرحا لأحداثه، حيث تجمع قصرى لمجموعات متباينة من البشر يتعايشون معا.
هناك ترى الباحثين عن المتعة، و المطرب الذى يكاد يفقد نجوميته، ويقاوم صعود غيره، وفتيات الليل باختلاف دوافعهن لاحتراف الرذيلة، والعاملين فى المكان وتبريراتهم المريحة لعملهم..نماذج قد تكون مشوهة لبشر يبحثون عن حلول لمشكلاتهم الشخصية، لكنهم تعبير واقعى عن مجتمع مشوه بدوره استفحلت مشكلاته ولم يعد بالإمكان إقناعه بأن الحل الجذرى لن يكون إلا بالتخلص من سهولة الغرق فى الازدواجية.
المأزق الحقيقى ليس فى الفيلم بل خارجه، لدينا نحن ولدى صناعه أيضا. صناع الفيلم تأرجحوا بين إدانة الإرهاب وتأييد مبرراته، فتحى عبد الوهاب ـ الإرهابى فى الفيلم ـ ينقذ عامل الكباريه المحافظ على فروضه (أحمد بدير)، ويفقد حياته فى محاولة إقناع زميله بأن الحوار قد يجدى. ونحن تأرجحنا بين رفضنا لهذا الطرح وبين التعامل معه بمنطق الفيلم ذاته وبالتالى قبوله.
فالفيلم قدم مبررات للجميع، كى يظهروا كما شاهدناهم، جومانة مراد، ربما لم تجد عملا غير بيع جسدها لتجد نفقات علاج والدتها المريضة. وجندى الصاعقة ـ محمد لطفى ـ الذى فقد صوته فى الحرب وخذله تجاهل الدولة، لم يجد إلا البلطجة سبيلا للعيش. أما ماجد الكدوانى فلم يجد إلا الاستسلام للذة اجترار الماضى بين جدران الكباريه حتى وإن كان عبر تنظيف دورات المياه. وعلاء مرسى جامع النقوط، ربما لم يجد عملا آخر يتدبر به نفقات أسرته الصغيرة. وحتى صاحب الملهى صلاح عبد الله يبدو مضطرا لإدارته، فهو إرثه الذى لا يعرف غيره مصدرا للرزق. الجميع فى الفيلم يحتقرون ما يفعلون، لكنهم مضطرون له ويتحايلون على احتقارهم بصورة أو بأخرى. فتاة الليل تجد عزاءها فى تدبير نفقات العمرة لأمها، والبلطجى لا يقترب من السرقة، ويمارس بلطجته بإخلاص لصاحب العمل. وهذا بدوره يدير صالة للفسق ويرفض تناول الخمر ويحتقر شقيقه الذى يتلصص على النساء فى الكباريه، بل ويؤدى العمرة سنويا ليتطهر من آثامه.
لكن الصدمة الحقيقية فى الفيلم، هى أنه أغلق أمام أبطاله وأمامنا كل نوافذ الخلاص، فالفتاة الهاربة من واقع بائس ـ دنيا سمير غانم ـ بعد انتهاكها، تأتى لعالم أكثر بؤسا، وعندما تتمرد عليه وتفر منه، يحاصرها ما هو أقسى وكأن الشقاء هو القدر المحتوم. وزميلتها التى يأتيها نعش أمها داعيا إياها للخروج من الكباريه، تعود إليه لتبحث عن الستر داخل عالم العرى. وهذا ما يفسر ثقل الإحساس بالهم بعد نهاية العرض، فمشاهد الجثث المضرجة بالدماء بعد تفجير المكان ليست وحدها المسئولة عن ذلك.
الموت هو الحل الوحيد أمام أبطال الفيلم، الذين أصروا على البقاء داخل عالمهم المغلق بازدواجيته. فإذا لم يكن على يد الإرهاب فسيكون بأيديهم أنفسهم، لأن عالمهم ذاته على وشك الانفجار.
البلطجى يكتشف هشاشة وضعه الذى بدا مستقرا، والإرهابى تتغير قناعاته التى بدت مستقرة فثمة حلول أخرى غير القتل، وجامع النقوط يكتشف أنه حتى مع تحمله لاحتقار عمله، فإنه لن يكفى احتياجات ابنته. وماجد الكدوانى عندما يلفظه الكباريه، لا يجد إلا قتل شقيقه صاحب الملهى فى محاولة يائسة للبقاء. والمطرب الذى بدأ نجمه فى الأفول وابتعدت عنه راعيته ملتفتة لمن هو أكثر شبابا، يكون المسدس هو سلاحه من أجل البقاء.
الناجى الوحيد من المذبحة هو النادل الطيب، الذى اكتشف أنه ليس مرغما على عمل يرفضه. ربما هذا ما دفع البعض للجزم بأن الفيلم يحمل بعدا أخلاقيا..لكنى أظن أن المسألة أكثر عمقا من ذلك، فإذا كان "الكباريه" رمزا لمجتمع شيزوفرينى يحكمه الفساد، فإنه لا سبيل للتغيير إلا برفضه بالكامل. ومن هنا تأتى أهمية فيلم "كباريه".
لقد استطاع المخرج نسج عالم رمزى يحاكى الواقع الذى نعيشه، لكن المبهر أنه لم يستسلم للإغراق فى الرمزية. فربط ما نراه على الشاشة بما حولنا فى الشارع عبر مشاهد عديدة، تؤكد أن ما نراه هو ما نعيشه فعلا، ساعده فى ذلك سيناريو محكم الحبكة ومونتاج دقيق حافظ على وحدة الإيقاع، بداية من التيترات التى حملت مشاهد مصورة للناس فى الشارع، ومرورا بالأحداث التى تخرج أحيانا بعيدا عن الكباريه، ثم تعود إليه من جديد. وانتهاءً بمشهد النهاية وصوت المذيع، يؤكد أن انفجار الملهى سببه ماس كهربائى، لتستمر دائرة الوهم كما هى. تلك الدائرة التى نرى إشارات لها طوال الفيلم.
فالمطرب الذى قدم شخصيته المتنوع دائما خالد الصاوى، يعلم تماما أن نجوميته زائفة وجماهيره وهميون، لكنه يقنع نفسه بأن كل ذلك حقيقى، فمادامت الفضائيات تعرض الفيديو كليب بعد دفع الرشاوى، فلا ضير من الاعتماد على ثراء امرأة عراقية ـ الرائعة هالة فاخر ـ هى أيضا بدورها لا تقبل الاعتراف بعوامل الزمن، وتوهم نفسها أنها مازالت مرغوبة حتى إذا كان ذلك عبر إنفاق الأموال بسخاء على رجل ليرافقها. والإرهابى الذى يعتقد أن التحاقه بالجماعة المتطرفة سبيل لخلاصه وخلاص مجتمعه من الشرور، يوهم نفسه أنه بالقتل ينال الشهادة، التى يستعد لها بالغسل وارتداء الكفن. لقد قدم فتحى عبد الوهاب واحدا من أروع مشاهده فى الفيلم وهو مستسلم تماما لمراسم الغسل وهو حى.
ربما يمكنك قراءة "كباريه" بمنطق أخلاقى، ويمكنك أن تتحفظ على ذلك، لكن لا يمكنك أن تنكر أننا أيضا بدورنا نعيش داخل كباريه أكثر اتساعا وأشد قسوة.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة