موظفو البلديات والمحليات والصحة والمعاشات والتأمينات والتموين، غلابة على الطريقة المصرية، تركتهم الدولة بلا حوافز نفسية أو مالية، لينتشروا دون خطوط سير، أو أذون عمل، يوزعون أنفسهم فى مجموعات تتغير وفقاً لنظرية الاحتمالات، والتخصصات المضحكة المبكية، كل فاتحا "مِخلته" أو جرابه، لتحصيل "الغلّة" اليومية، التى يؤمّن بها خزائن بيته ومستقبله .
فخالد وسمير ورأفت من موظفى الصحة، قسم "أوراك" الدجاج، يذهبون صباحاً للمطعم الشرقى، والسوبر ماركت الغربى، فيما تذهب مجموعة ماجد وعلى وعبد الرحمن للمطعم نفسه والسوبر ماركت إياه، مساء، لكن بتخصص آخر، كونهم من قسم الصدور "لأن الفريق الثالث جاء وسط اليوم، معلناً عن هويته ـ من قسم "الأجنحة والكِبَد والقوانص"، ومحذراً أيضاً من زملائه التابعين لمجموعة الشهادات الصحية، مؤكداً أنهم صارمون وينزلون كلهم على القلب دون موعد .
وفى اليوم التالى تختلط الأشخاص فى ورديتى الصباح والمساء، ليزوروا المطعم الغربى والسوبر ماركت الشرقى وهكذا، المهم أن تكون الحصيلة يومياً مُرضية، لتعويض الراتب الذى لا يكفى إيجار الشقة، أو مصروف الولد فى المدرسة الخواجاتى، أو قسط الشقة التمليك المكتوبة باسم الزوجة، حتى لا يقع صاحبها تحت طائلة قانون "من أين لك هذا"، وهو ما يؤكد صحته موظف محترم طلب إجازة بدون راتب من عمله فى ديوان محافظة القاهرة، ليعمل فى أحد مطاعم وسط البلد، بحثاً عن اليومية الحلال، وهروباً من مجموعات "السحت".
جبن التجار
يقول الموظف، واسمه خالد، إن التجار وأصحاب المطاعم والمشاريع الاستثمارية يصرخون ولا مجيب، ويقسم على أن مدير شرطة مرافق العاصمة، يحرّض أصحاب المطاعم والمقاهى على البوح وكشف المستور أملاً فى استئصال مخالب الموظفين الذين ينهشون الأرزاق، لكنهم ـ أى التجار، جبناء بالفطرة.
ولتفسير معنى الجُبن هنا، يقول عماد حامد صاحب مطعم فى وسط البلد فى القاهرة، إنه لا يجرؤ على مساعدة شرطة المرافق فى كشف المرتشين، فمن يكشف سر عثمان اليوم، ستأتيه الضربة من زميله زكريا غداً، وذلك بمحضر إشغال طريق، أو لافتة بدون ترخيص، وإن كان زكريا ذكياً ــ والحديث لعماد حامد ــ ، سوف يسند المسئولية لموظف من جهة بعيدة تصب فى حارة "أذن جحا"، بمعنى أنه سيوكل موظف الصحة أو التموين بالمهمة، وكلهم مجموعات صغيرة فى عصابة واحدة كبيرة•
آفة بشرية
وبالبحث عن سبب هذه الظاهرة التى وصفت بآفة تلتهم أرزاق التجار، تبين أنه ليس هناك مطعم واحد فى مصر خالياً من المخالفات الصحية، سواء كان هذا المطعم من فئة النجوم الخمسة، أو الأمراض السبعة• وإن كان المطعم بلا مخالفات البتّة، فالعين الثاقبة لموظف الصحة أو الحى أو (مجلس المدينة فى الأقاليم)، مثل عين الناقد التشكيلى، تلتقط المخالفة قبل أن تتجسد، وفى حالة الاعتراض، تكون الطامة الكبرى، حيث تحرر مخالفة كفيلة بتقويض بناء المشروع وإجهاض حلم صاحبه الغلبان.
وباستدراج موظف من هؤلاء، كان يجلس فارداً كتفيه نافخاً وجهه، ضارباً شفتيه إلى الأمام كسبع، وهو يجلس على رصيف مقهى فى الزمالك، قال إن الثقة فى موظفى البلديات كاملة أمام جهة المساءلة، لأنه دائما عفيف النفس، طاهر اليدين، شريف القصد، يهتم بالمصلحة العامة، ولا ينظر للمنفعة الخاصة.
وبسؤال صاحب المقهى الذى استضاف الموظف العنترى، أقسم أن هذا الموظف بالذات لا يأكل يومياً إلا من المطاعم التى تقع فى دائرة عمله، ولا يطلب فى المقاهى إلا المشروبات الغالية "عصائر فريش"، كما أنه لا يذهب إلى بيته متخففاً من أكياس البرجر والكفتة والكباب، أو الفراخ المشوية، إضافة إلى العصائر المعلّبة، وزجاجات البريل، ولا يعرف أبداً الفول والطعمية، لأنه أمام أصحاب المطاعم مصاب بقرحة فى المعدة، وينفذ نصائح الأطباء حرفياً بالبعد عن هذه الأكلات الضارة.
90% من محلات القاهرة دون ترخيص
وإن كان الدور سيوكل من موظف الحى المرصود، إلى زميله الطليق فى إدارة ثانية، فسيكون طبعا من قسم التراخيص، وهنا ستكون الداهية كبرى، لأن الإحصائيات الطبيعية تؤكد أن أكثر من 90 % من المحلات التجارية باختلاف صفاتها وأنواعها فى القاهرة الكبرى، تعمل دون ترخيص، ولا أحد يدرى سر الفلسفة العبقرية فى عدم منح تراخيص للمحلات التجارية، مع تركها مفتوحة الأبواب.
وهنا يؤكد ثلاثة أطباء شبان كانوا قد شاركوا فى مشروع مطعم فى الدقى، ثم أغلقوه بسبب الخسارة الفادحة، أن مسألة إغلاق باب التراخيص تعد أكبر بوابة لفساد موظفى البلديات والصحة والتموين، وأمثالهم، كأن القصد مبيت من الحكومة بأن يظل رأس صاحب المشروع مصاباً بـ"بطحة"، ليكون دائم التحسيس عليها، فلا يجز أسنانه ولا يكشر أبداً فى وجه الموظف، خوفاً من المحاضر، التى "إن طلعت فاشوش، ستكون قد أنهكت صاحبها مالياً مع المحامين"، وبذلك توفر الدولة مورداً مالياً للموظف من القطاع الخاص، يسد حاجاته المتعددة التى لا يكفيها راتبه الهزيل.
وحتى نقترح العلاج بعد رصد العاهات، نوجه السؤال مباشرة إلى الدكتور عبد العظيم وزير محافظ القاهرة: ما سبب إغلاق باب تراخيص المطاعم والمقاهى، وإغلاق باب المصالحة فى المخالفات التنظيمية للمبانى، والأخيرة هى العقبة الكبرى فى مسيرة التراخيص؟
إن طمع المخالفين فى مبانيهم شىء ثابت، لكن وراء كل مخالف موظف من المحليات قبض ثمن المخالفة، فلو كانت عقوبة صاحب العمارة المخالفة تتجسد فى وقف تراخيصها وعدم توصيل مرافقها، فما عقوبة الموظف الذى قبض الثمن وذاب كفص ملح فى بركة فساد المحليات؟
والسؤال الثانى للدكتور وزير، وجميع المحافظين فى بر مصر: لماذا لا يفتح الباب سهلاً مريحاً لإصدار تراخيص المحلات والمشاريع التجارية، والاستفادة من رسوم التراخيص فى رفع حوافز موظفى المحليات، حتى يكفوا عن ملاحقة اللقمة الحرام؟
أتمنى ألا تكون إجابات محافظ القاهرة والسادة زملاؤه كسمكة عائمة فى بحر واسع، بحيث لا يحدد صنفها، ولا طعمها، بمعنى أن تأتى إجابة المحافظين وجبة طيبة تسد رمق التجار، وتشفى "البطحات" ـ جمع بطحة ـ التى تقيحت على رؤوسهم .
د. عبد العظيم وزير محافظ القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة