هل الشعب المصرى خانع؟ هل أصابته المشاكل التى يعانى منها بحالة فقدان اتزان؟ هل أصبح يتميز باللامبالاة؟ هل فقد إحساسه بالحياة لدرجة أنه أصبح يفضل الموت عن الحياة؟ هل تغيرت الشخصية المصرية وأصبحت أكثر سلبية؟ هل أصبح الشعب المصرى شخصية غير مفهومة لخبراء الاجتماع وعلم النفس؟ حقيقة أنا أرفض كافة تلك الاتهامات الموجهة للشعب المصرى. هذا الشعب صاحب أكبر موروث اجتماعى وثقافى كان ولا يزال يستوعب الثقافات المختلفة ويهضمها ويستوعبها، ثم يفرز ثقافته الخاصة به.
تحرك الشعب المصرى مؤخرا فى موقفين تحركاً رائعاً وحضارياً بشكل أجبر الأعداء قبل الأصدقاء على احترامه واحترام رغبته وتنفيذها..
الموقف الأول كان عند مطالبة العاملين فى الضرائب العقارية التابعين للمحليات بضمهم إلى وزارة المالية ومساواتهم ماليا بزملائهم فى مصلحة الضرائب العقارية التابعة للوزارة، وكان مطلبهم فى الحقيقة من المطالب العادلة، والتى كسبوا خلالها تعاطف المجتمع المصرى بجميع فئاته.
وعلى الرغم من محاولة وزير المالية تسويف وتمييع مطالبهم، بل وهددهم أنه لن يستجيب إلى تلك المطالب التى اعتبر أنه ليس من حقهم فى الأساس مجرد المطالبة بها، فما كان من أصحاب المطالب المظلومين إلا أن اعتصموا اعتصاما صامتا أمام مجلس الوزراء دون ترديد أى شعارات أو هتافات أو تهديدات، ورفعوا جميعا شعارا واحدا "المساواة فى الحقوق بين أصحاب المهنة والعمل الواحد"، وظلوا قابعين فى الشارع وسط الأجواء الباردة فى الشتاء دون كلل أو ملل وكلهم إيمان بقضيتهم، فمن غير المنطقى أن يحصل موظف فى مصلحة الضرائب العقارية التابعة لوزارة المالية فى القاهرة على مرتب لا يقل عن 2000 جنية شهريا، وزميله الذى يقوم بنفس العمل فى المحليات والمحافظات الأخرى يحصل على مرتب 200 جنيه شهريا فقط.
استمروا فى اعتصامهم يوما بعد يوم، وفشلت كافة محاولات التهدئة، والتزموا بهدوئهم وقوة مطلبهم حتى تحقق لهم ما أرادوا وخضع وزير المالية لمطالبهم، وتمت بالفعل مساواتهم بزملائهم وكسبوا حقوقهم واحترام المجتمع واحترام الجميع. الموقف الثانى والأهم، كان موقف شعب دمياط من مصنع "أجريوم" الكندى لإنتاج الأسمدة والبتروكيماويات، والذى كان من المقرر أن يقام بالقرب من مدينة رأس البر الساحلية، والتى تعتبر المتنفس الصيفى لسكان دمياط والمحافظات القريبة منها.
وكان أهالى دمياط رافضين لإقامة هذا المصنع الملوث للبيئة والذى كان سيؤدى إلى إصابة أجيال كاملة بالسرطان نظرا للتلوث الشديد الذى ينتج منه، فى الوقت الذى كان يصر فيه مسئولو الشركة الكندية على إقامة هذا المصنع فى تلك المنطقة العبقرية، حيث تحتاج إقامة مثل هذه المصانع إلى مياه نقية من النيل ومياه عميقة للصرف فيها فى البحر المتوسط وميناء للتصدير، وكان ميناء دمياط، بالإضافة إلى غاز طبيعى لتلبية احتياجاته من الطاقة. وعلى مدى عامين من الدراسات والأبحاث على مستوى منطقة الشرق الأوسط وليس مصر فقط استقروا على تلك المنطقة التى تلبى كافة احتياجاتهم الفنية والطبيعية وأيضا البشرية، ولذلك كانت هناك استماتة من جانبهم وتمسك بهذا الموقع، إلا أن أهالى دمياط كانوا أكثر استماتة بعدم إقامة هذا المصنع فى أرض محافظتهم.
وهذا التحرك الحضارى، أقل ما يوصف به أنه عهد جديد للتحرك الجماعى المصرى لنيل الحقوق الضائعة أو المسلوبة، وتعبئة الرأى العام ومواجهه سطوة رأس المال وقوة السلطان التى كانت تقف وتؤيد هذا المشروع، والفساد الذى استشرى فى عروق هذا المجتمع دون خجل أو تفكير فى صحة الأجيال القادمة، تلك الأجيال التى قهرت هذا الفساد من خلال اللافتات التى كتبوها على حقائب مدارسهم الصغيرة " لا لن نصمت".. لا لأجريوم.. لا للتلوث"، علاوة على السواد الذى اتشحت به منازل الشعب الدمياطى واللافتات التى ملأت الشوارع "نرفض أجريوم فى دمياط".. "لا للمصنع القاتل".. "لا لمصنع الموت".. "من أجل أطفالنا لا لمصنع أجريوم".. "لا للتلويث.. لا للأمراض".. "شعب دمياط يد واحدة ضد سرطان أجريوم".. ونجحت تلك الحملات الشعبية المنظمة، ووقفت ضد الحملات الطاغية التى حاولت شركة أجريوم القيام بها من خلال الإعلانات المدفوعة الأجر والمؤتمرات الصحفية للتأثير على الرأى العام لإقامة المصنع فى موقعه، وأخيرا أوصى مجلس الشعب بنقل المصنع من محافظة دمياط وإقامته فى موقع آخر.
هذا هو الشعب المصرى البسيط الذى ينهض ويهب على قلب رجل واحد وبشكل حضارى منظم ودون قيادة توجهه، سوى ما يمس مستقبله وصحته وقوت يومه أو عقيدته. هذه هى فلسفة الشعب المصرى التى احتار فيها الخبراء والمحللون متى يهب ومتى يستكين وماذا يحرك مشاعره ويلهب أحاسيسه.. شعب عظيم يحتاج فقط إلى إزالة الأتربة للكشف عن معدنه الأصيل. فلنجعل من "أجريوم" نقطة انطلاقه لتطوير حياتنا اليومية ومحاربة الفساد والوقوف ضد السلبية واللامبالاة وضد المحتكرين والمتاجرين فى قوت الشعب وصحته والغشاشين ومستغلى النفوذ والمرتشين.. فلنقف جميعا ضد الدروس الخصوصية والفساد التعليمى.. نريد مستقبلا أكثر إشراقا لأولادنا والأجيال القادمة ولنتمسك بالأمل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة