عندما صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم أرض فلسطين عام 47 كان طبيعياً أن يرفضه العرب، ولكن بعد الهزيمة العربية فى حرب 48 انخفض سقف المطالب العربية، وارتفعت الأصوات الراغبة فى قبول قرار التقسيم والعودة إلى خطوط ما قبل الحرب.
ثم يقع العدوان الثلاثى على مصر عام 56، وقبله لم تكن مصر تسمح لسفن إسرائيل بالمرور من القناة، ولكن كنتيجة للعدوان فقد كسبت إسرائيل الحق فى المرور، ومرة أخرى تتعاظم المكاسب الإسرائيلية، كما يزداد حجم الحقوق التى يتعين علينا استردادها فتخفت الأصوات المطالبة بعودة فلسطين كاملة، وتظهر أصوات عربية تطالب بقبول دولة واحدة تضم العرب واليهود.
وتأتى صاعقة 67 ويتم احتلال سيناء والجولان والضفة وقطاع غزة ليتسع الخرق على الراتق وتزداد المهمة صعوبة ويصبح التفكير فى تحرير فلسطين حلماً مؤجلاً بعد أصبحت إزالة آثار عدوان 67 هى القضية الأولى بالاهتمام، وتتضاءل مطالب العرب وتصير أغلى أمانيهم هى العودة إلى حدود 4 يونيه، والاكتفاء بالضفة وغزة لإقامة دولة فلسطين.. و"ربنا يعوض علينا فى حيفا ويافا وعكا وعسقلان والنقب"، ثم يزداد الموقف تدهوراً بخروج مصر من المعادلة بعد كامب دافيد، وينخفض سقف المطالب العربية، ويقبل الفلسطينيون بالفتات فى دوامات مدريد وأوسلو ووأى ريفر، ثم لا يحصلون على شىء!.
هذا النهج الذى اتبعته إسرائيل بمواصلة العدوان بشكل مستمر على العرب جعل المجهود العربى يتشتت، وتتم التضحية اليوم بمطالب الأمس العادلة، ثم تتوارى مطالب اليوم تحت وطأة العدوان الواقع غداً، و هكذا. ألا ترون أن هذا التكتيك الإسرائيلى فى إنهاك العدو هو ذاته ما يواجهه المصريون كل يوم فى سعيهم لطلب الرزق، وفى تحركهم من أجل الإصلاح والديمقراطية والانتخابات الحرة وتداول السلطة وإنهاء الطوارئ وإقامة دولة القانون؟.
إن القوى الحية فى المجتمع سواء القضاة أو الصحفيون أو أساتذة الجامعة وعمال المحلة وموظفو الضرائب العقارية وحركة كفاية وغيرها من الحركات المطالبة بالتغيير، تفاجأ كل يوم بعدوان جديد من السلطة يزيد من حجم ركام التعديات المطلوب إزالتها ويجعل عملية التغيير السلمى أكثر صعوبة، إذ يحتار المرء فى ظل العدوان اليومى على حقوق الناس أى الأمور أولى بالاهتمام وأى القضايا ينبغى الوقوف عندها والتركيز عليها وأى الحقوق أولى بالاقتضاء؟
هل نركز على رغيف الخبز الذى أذلوا به الناس أم نسعى لتدارك الآثار المدمرة الناجمة عن رفع الأسعار؟ هل نهتم أكثر بفضيحة منح إسرائيل الغاز المصرى بالمجان تقريباً، أم نمنح وقتنا وجهدنا من أجل إيقاف العمل بمصنع أجريوم الذى يمثل التفريط فى أوضح صوره؟ هل نركز على موضوع الماء الملوث الذى نشربه مخلوطاً بالمجارى فينتشر الفشل الكلوى، أم نهتم أكثر بالطعام المسموم الذى يجلب السرطان؟
هل نهتم بضحايا ممدوح إسماعيل الذين غرقوا فى البحر ونسعى لتقديمه للمحاكمة ورفع الحماية الرسمية عنه؟ أم نصطف لمواجهة قانون المرور الذى سيخرب بيوتنا ويجعلنا تحت رحمة أصغر عسكرى؟ هل نواجه قانون الضرائب العقارية أم قانون مكافحة الإرهاب؟ هل نتذكر ضحايا قطار الموت ونطالب بمحاكمة من تسببوا فى حرق 400 مواطن أم نترك قطار الصعيد ونفكر فى الذين احترقوا داخل مسرح بنى سويف ونأخذ حقهم من القتلة؟ هل ننسى الذين انتهكوا عرض الفتيات فى يوم الاستفتاء المشئوم، ونعطى اهتمامنا لكارثة ضرب المواطنين فى البرلس والقبض عليهم لأنهم يطلبون الدقيق؟
إن السلطة تقوم بإنهاك الشعب عبر إدخاله فى دوامات لا تنتهى من المصائب، وتفتح على الناس جبهات جديدة كل يوم مستخدمة وسائل غير شريفة بالمرة لمراكمة الأجندة الوطنية ببنود لا نهاية لها، وبشكل يجعل عملية التفاوض ــ بعد الإنهاك الكامل ــ مربحة للسلطة فى كل الأحوال، وهذا تكتيك إسرائيلى معروف يقوم على الإيغال فى العدوان والضغط المستمر ليجعلك تترك أحزان الأمس وتنشغل بمصيبة اليوم وتحاول تحجيم أثارها. ومن المؤسف أن تتعامل السلطة فى مصر مع شعبها على هذا النحو الذى ابتدعته إسرائيل فى مواجهة أعدائها العرب، فتنفذه حكومتنا بنفس الطريقة فى مواجهة أعدائها التاريخيين.. المصريين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة