كنا خمسة التقينا به، والتقى بنا. كلنا مبدعون. نبدع أدباً، ونحب السينما. قال لنا: أنا ابن البحر وابن السينما.
جعلنا نرى بارقة الحلم، وهى تسطع أمامنا. كان أقوانا وأقدرنا. لم نشعر بمسحة يأس واحدة فى عينيه، فقلبه ناصع كخضرة السنابل، وحوله تتساقط الشهب كقناديل صغيرة متوهجة.
أتى إلينا من الشاطئ الآخر ـ إيطاليا ـ بعد خمسة وعشرين عاماً، غاب فيها عن ـ بورسعيد ـ الأبيض والأسود.. (والوداع يا جمال يا حبيب الملايين)... وعربات المهجّرين من لمعة مدينة البحر، إلى الحنين لندى المحبين المغادرين إلى الغياب.
أتى إلينا محملاً بعبق السينما الإيطالية، وحوله تحوم كل فراشات المساء.. عرفنا منه أنطونيونى، وبازولينى، وفيلينى.. وعرف منا إحباطات ساعات الصباح.. عرفنا منه أن السينما موجات من الأحلام الرقيقة، وعرف منا الاستسلام الكسول لقيلولة المهزومين.. عرفنا منه أن نصنع دانتيلا واعية من خيوط الشخصيات.. وعرف منا أحلام الليل المهدرة، فى قراءات متقطعة، وكتابة قلية، لحمقى صغار، يريدون رؤية القمر من مجرد نافذة صغيرة.
كان قويا بدرجة جبل، اختار أن يكون بعيداً ووحيداً، وكنا أضعف من أوراق القش المتناثرة بجوار البيوت القديمة. فغادرنا وغادرناه.. قرر أن ينسج حلمه تحت غبار القاهرة ودخانها القمىء، وقررنا أن نبقى فى مدينتنا، كعرائس من الصمت والسكون، تدفعها الموجات أينما رأت وأرادت.
الشيخ الذى قارب الستين اختار أن يدافع عن حلمه، فى كتابة سينما يتمناها وتتمناه، والحمقى الصغار استمرأوا أن يظلوا خائفين، من صدى صوت القطار، الذى يعبر إلى المدن البعيدة، محملاً بهواء العصافير الملون ببراءة الأناشيد.
ابن البحر اختار أن يصنع حلمه بيديه، لكن الموت اختار له أن يبقى وحيداً وبعيداً.. اختار له أن يظل جبلاً صبوراً، ينتظر حلمه. الذى حتما ً سيبزغ على جبل آخر يشبهه، لكن تحت سماء أخرى، وشاطئ جديد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة