أقر وأعترف أننى كنت مخطئا عندما تحمست كثيرا لتطبيق سياسة الاقتصاد الحر فى مصر، وذلك لإيمانى الشديد أن اقتصاد السوق إذا ما توافرت فيه كافة العناصر الأساسية بداية من الرقابه الحكوميه القويه والمنافسه الشريفة مع عدم الاحتكار وانتهاء بدور المجتمع المدنى ومنظماته فى السيطرة على السوق، وضبط الأسعار كل ذلك من شأنه إيجاد منظومة قوية تعمل لصالح المستهلك أولا وثانيا وثالثا، ومن هذا المنطلق كان إيمانى العميق بضرورة تطبيقه فى مصر من أجل المواطن المصرى الذى عانى منذ سنوات طويلة، ولا يزال يعانى من مشاكل تدبير احتياجاته الأساسية.
المشاكل التى تعرضت لها مصر مؤخرا سواء ما يتعلق منها بالنقص الشديد فى الخبز، أوحديد التسليح والأسمنت أو تسقيع الأراضى أو الارتفاعات الجنونية فى أسعار السلع الغذائية كل هذه المشاكل كشفت مدى هشاشة النظام الاقتصادى المصرى، ومدى القصور الكبير فى مفهوم الاقتصاد الحر من كافة أطراف المنظومة، والواقع أن هناك لاعبا أوحد فى المباراة مجرد مجموعة من التجار محدودى العدد كبروا وتفحلوا وتضخموا، لدرجة يصعب معها السيطرة عليهم والطرف الثانى وهو الحكومة ضعيف للغاية ولا تملك لا قوانين ولا وسائل ولا أدوات تمكنها من التدخل والسيطرة وقت اللزوم وغير متواجدة بالفعل فى الملعب، وكذلك جمعيات حماية المستهلك أو منظمات المجتمع المدنى التى من المفترض أن تلعب أيضا دور المنظم للسوق، مثل الغرف التجارية واتحاد الصناعات ..هؤلاء جميعا لابد أن يمثلوا اللاعبين الأساسيين فى المنظومة حتى تصبح المباراة مباراة حقيقة، وفقا للأسس المتعارف عليها عالميا.
حاول وزير التجارة والصناعه المهندس رشيد محمد رشيد /ممثل الحكومة/ فى تلك المباراة أن يلعب بالأوراق التى فى يديه، والتى منحها له القانون، ولكنه اكتشف أنها مثل بنادق غفر العمدة التى أصابها الصدأ نتيجة عدم الاستخدام، ونتيجة تخلفها لسنوات طويلة ولم يتم تحديثها وفقا للمتغيرات الحديثة بالإضافة إلى أنه لم يتم تفعيلها فى أى وقت من الأوقات، وأصدر قرارات بعدم تخزين حديد التسليح أو حجبه وتسقيعه والإفصاح عن الكميات التى يتم صرفها من المصانع للموزعين والكميات التى يتم بيعها أولا بأول، وتواعد المخالفون بأشد أنواع العقاب، وأعتقد أنه بذلك ضبط السوق وقضى على السوق السوداء لتجارة الحديد، إلا أن اللاعب الأوحد بخبرته ودهائه وقوته التى اكتسبها فى ظل غياب الرقيب نجح فى إفشال كافة تلك المحاولات، وفرضوا ولا يزالوا يفرضون السعر المناسب لهم ويقومون بحيل كثيرة لبيع حديد التسليح وفقا للأسعار التى يحددونها، وهناك أربعة موزعين فقط تعرفهم الحكومة بالاسم، يتحكمون فى سوق الحديد بالكامل ومن الحيل التى لجأ إليها بعض التجار شحن كميات حديد التسليح فى سيارات النقل العملاقة الخاصة بهم ونشروها فى الشوارع والضواحى على مستوى المحافظات، وأفرغوا مخازنهم تماما من كميات الحديد التى تورد إليهم من المصانع وتصدر الأوامر لتلك السيارات بالتوجة إلى الأماكن التى يحددونها وذلك بعد الاتفاق على السعر مع المقاول الذى يرغب فى شراء الحديد بالسعر الذى يحددونه، وليس سعر الحكومة وبذلك أصبح الحديد يتم تخزينه فى شوارع مصر بعيدا عن أعين الرقابة الحكومية فى الوقت الذى تبدو فيه المخازن خاوية تماما.
ونفس الحال بالنسبة لأسعار السلع الغذائية والتى كما بررها المسؤولون الحكوميون المصريون أنها مرتبطة بالارتفاعات العالمية، ولكن السؤال ما هى نسبة الارتفاعات العالمية وهل هى نفس نسبة ارتفاعها فى السوق المصرية، وهل هناك زيادات كبيرة فى الأسعار فى دول العالم المختلفة مثلما هى فى مصر؟ ولماذا نحن مرتبطون فقط بارتفاعات الأسعار ولا نرتبط بخفضها إذا ما انخفضت عالميا، ولماذا نرتبط بأسعار السلع ولا نرتبط بالأجور العالمية؟
الحقيقة أن دول العالم التى تعتمد على الاقتصاد الحر لم تسجل فيها أسعار السلع الأساسية، بما فيها أسعار الطاقة الارتفاعات الكبيرة المسجلة فى مصر وذلك لتفاعل أطراف المنظومة بشكل جيد، حيث قام التجار بخفض هامش ربحهم وقامت الحكومات الرشيدة بخفض معدلات الضرائب المفروضة على السلع الغذائية، وقامت جمعيات حماية المستهلك بدورها الرقابى فى رصد أى زيادة غير مبررة وتوعية المستهلكين بالامتناع أو تخفيض حجم استهلاكهم من أى سلعة يرتفع سعرها بصورة غير مبررة .. الجميع وضع نصب أعينه المستهلك وهو الهدف الأساسى فى منظومة الاقتصاد الحر لرفع المعاناة عن كاهله ولتخفيف وطأة أى زيادات فى الأسعار العالمية، ولكن فى مصر كان الهدف أيضا المستهلك والذى تكاتفت عليه كافة الأطراف /وعصرته/ وأصبح فى مرمى نيران التجار والحكومة التى انتهزت الفرصة، وخفضت حجم الدعم الذى كانت تقدمه لبعض السلع.
وعلى الفور لجأت الحكومه إلى الأسلوب السهل وبطريقة غير احترافية، بل ومن الممكن أن نطلق عليها المراهقة السياسية حتى تظهر أنها مازالت موجودة فى الساحة وتدافع عن محدودى الدخل، واتخذت قرار اللجوء إلى البطاقات التموينية والسلع المدعمة التى سوف تشملها تلك البطاقات والتى هى فى الحقيقه ضد الاقتصاد الحر، حيث تحاول الحكومة ربط كافة السلع بداية من الخبز والأرز والزيت والسكر، وانتهاء كما يشاع الآن بالبنزين مستقبلا، وأصبح من غير المعقول أن يكتب لهذا الأسلوب النجاح، حيث ستظهر مافيا بطاقات التموين والتى ستتلاعب فى كميات السلع المدعمة التى تقدم للمواطنين ومقدما لن تستطيع الحكومة مقاومة تلك المافيات وسوف تتشدق الحكومة بأنها قدمت كافة الضمانات لمحدودى الدخل عبر تلك البطاقات وابتعدت عن المواجهة الحقيقية مع التجار والسيطرة على الساحة التى فقدتها، وأغلب الظن أنها لن تتمكن من استعادتها مرة أخرى فى القريب المنظور، والحقيقة التى يجب أن تعترف بها الحكومة أن تلك الجولة من الصراع انتهت بالضربة القاضية لصالح التجار.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة