أخفقت الإدارة الأمريكية الحالية فى تنفيذ حلول واقعية وموضوعية لحل أزمة الصراع الإسرائيلى ـ الفلسطينى، رغم أنها الأكثر صراحة ووضوحاً فى الحديث عن فكرة "الدولتين"، و إدارة بوش صعبت على نفسها فرص التطبيق بعدم توازن سياساتها تجاه القوى الفلسطينية المتناحرة من ناحية، وافتقادها سياسة واضحة للتعاطى مع العقبات التى تواجه الصراع الإسرائيلى ـ الفلسطينى من ناحية أخرى .. ولتجاوز هذه الأزمة، يطرح البروفيسور ناثان ج. براون مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط فى جامعة جورج تاون الأمريكية وكبير الباحثين بمعهد كارنيجى للسلام ما يسميه روشتة علاج واقعيه للتعاطى مع الأزمة، تحت عنوان استفهامى " زوال حل الدولتين؟".
كارنيجى أكد أن الادراة الحالية تعاملت مع تصورات "حل الدولتين" لكن الأطر العملية التى استندت إليها أدت إلى انهيار هذه التصورات، ومن ثم لم يعد بمقدروها إبرام اتفاقية سريعة بين إسرائيل والفلسطينيين والأفضل تمهيد أرضية متماسكة للإدارة المقبله تمكنها من التعاطى بيسر مع الأزمة حتى لا تكون الفرص المتاحة أمامها ضئيلة ومحكوماً عليها بالفشل.
فى معرض طرحه لهذا التصور، شخص براون الوضع الراهن لعملية السلام معتبراً، أن توقف مسيرتها بعد أوسلو ومدريد كرس لاستبعاد أية تسوية أو إدارة واعية للصراع، ساعد على ذلك عدم تحقق الغايات المرجوة من أسس الدبلوماسية الدولية التى اتبعت فى إدارة الصراع خلال العقدين الماضيين أو حتى قابليتها لتنفيذ إطار "الأرض مقابل السلام" لإنشاء كيان فلسطينى فى الضفة وغزة.
وتتجلى الأسباب فى أن الفلسطينيين وإن دعموا مسألة حل الدولتين إلا أنهم انتخبوا حزباً – فى إشارة لحماس – لا يقبل بهذا الحل, فى المقابل فإن الإسرائيليين هم أيضاً كرسوا ما يعارض تقديم نفس الحل عملياً. أما المجتمع الدولى فقد ساهم فى تعجيل القضاء على حل الدولتين كخيار قابل للحياة، فالإجراءات المالية والسياسية الدولية التى اتخذت ضد السلطة بعد وصول حماس للحكم لم تعاقب حماس وحدها ولكنها عاقبت مؤسسات الدولة نفسها، بل إن دعم الولايات المتحدة للسلطة لكى تواجه حماس جاء بنتيجة عكسية، وأضر بسمعة هذه القوات فلسطينياً, مما أظهر مدى ضعفها بعد هزيمتها فى مواجهة حماس.
وبالنسبة للأمريكيين فإنهم يقرون بأنه لا حل لديهم فى معالجة التشرذم الفلسطينى إلا أن الإدارة الأمريكية تقوم بمحاولات عظيمة لإعداد قوات السلطة – فتح – تحسباً لأية مواجهة مع حماس، تزامن ذلك مع القبول الإسرائيلى المتردد للجهود المصرية لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، وهى جهود تسعى إلى التعامل مع واقع وجود حماس وهو ما يتعارض مع الجهود الرامية لدحر هذه الحركة.
أدت هذه الأسباب إلى مجموعة من التداعيات منها: التناقض الظاهر حيال فكرة وقف إطلاق النار, ينطبق على النمط الأمريكى المعروف بالقبول بالأمر الواقع فى نهاية المطاف وبعد فوات الأوان. وأوضح مثال لذلك هو أن واشنطن اكتشفت أهمية الإصلاحات الداخلية فى عام 2002 بعد انقضاء فترة طويلة على محاولة الفلسطينيين أنفسهم إثارة قضايا نظام الحكم والديمقراطية. واكتشفت واشنطن خريطة الطريق بعدما 2006 بعد أن كانت هجرتها لمدة 3 سنوات. كذلك لم تدعم الولايات المتحدة الأمريكية حكومة عباس أبو مازن إلا بعد أن خسرت فتح الانتخابات البرلمانية لصالح حماس بعد أن كانت كخطوة رمزية فقدت كامل معناها فى نظر الفلسطينيين. ولم تظهر الولايات المتحدة أية رغبات ذات شأن فى الضغط على إسرائيل فيما يتعلق بوقف المستوطنات إلا بعد أن توطدت المستوطنات بعمق فى الضفة الغربية. فالتوقيت الخاطىء والمتابعة الراهنة لا تحتاج إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. بل إن المبادرة العربية فى بيروت 2002 عندما تبنت حل الدولتين تأثرت بصد الولايات المتحدة لها وبدا الجانبان غير قادرين أو راغبين فى السعى لتحقيق هذه المبادرة بأية طريقة متناسقة.
ويرى براون أن الولايات المتحدة الأمريكية وهى تتولى قيادة المجتمع الدولى، عليها أن تضع بداية جديدة لمقاربة النزاع وأن تطلق مبادرات على أساس الحقائق الماثلة على الأرض بدلاً من آمال الأمس المتلاشية. واعتبر التقرير أن قائمة الخيارات المطروحة حالياً – وهى أربعة – تبدو بغيضة، يبقى أفضلها على الإطلاق هو "حل الدولتين"، على الرغم مما لحق به من عوارض جعلت الخيارات المتوافرة لأية إدارة أمريكية مقبلة محدودة بالفعل.
الخيار الأول، وهو العودة إلى حل الدولتين فهو الخيار الأكثر جاذبية, وإذا كان تبنيه هو الأسهل سياسياً فتحقيقه فائق الصعوبة. فصيغة الرئيس بوش شملت دولتين (إسرائيل وفلسطين) تعيشان معاً جنباً إلى جنب "فى سلام وأمن" مع دولة فلسطينية قابله للحياة ومتماسكة وتتمتع بسيادة واستقلال .. وهى كرؤية للحل عظيمة، إلا أنها تفرض التغاضى عن التطرق إلى التفاصيل الشائكة المتعلقة بالحدود والمستوطنات واللاجئين والقدس.
والملاحظ أن إدارة بوش كانت أكثر صراحة وانفتاحاً فى نقاشها لهذه المسألة بالمقارنة مع الإدارات الأمريكية السابقة. لكن المشكلة أن هذه الرؤية لم تقترن بالواقع. فبعد ثلاثين عاماً أصبح من الصعب دحض نظرية "الأرض مقابل السلام" والتى بدأت تتحول بدورها إلى أمر يستحيل تحقيقه.
العقبات المؤسساتية ليست أقل صعوبة من العقبات المادية، فطيلة عقد من الزمن كانت هناك قيادة فلسطينية تلتزم علناً بحل الدولتين، وعلى مدار عقد من الزمن كانت هناك إدارة فلسطينية ملتزمة بهذه النظرية وترهنها ببقاء وجودها فى مناصبها لكنها افتقدت عنصر السلطة وهو ما يتضح فى الانقسامات الداخلية فى حركة فتح، امتدت فيما بعد إلى وجود حكومتين إحداهما فى القطاع والأخرى فى الضفة، الأولى ومقرها رام الله تشرف على جهاز بيروقراطى .. يتسم بالانحلال المتردى وتعتمد على الدعمين المالى والدبلوماسى لدرجة جعلت الوسط الفلسطينى يعتقد أنهم أوصياء دوليون على نظرية حل الدولتين وليسوا قادة محليين.
فى المقابل حكومة غزة ترفض العروض الدبلوماسية التى قدمت خلال العقدين الأخيرين، وفى النهاية لا توجد أرضية مشتركة بينهما، يمكن أن توصل إلى أى حل تفاوضى عبر الطرفين معاً.
وتحت عنوان: "هل يمكن قلب هذه الحقائق؟"، يرى براون أن إعادة إحياء هذا الحل لا يزال متاحاً، لكنه يحتاج إلى سلسلة من الخطوات الصعبة والعسيرة سياسياً، أولها أن تبرهن إسرائيل بوضوح ودون أى التباس على أنها راغبة فى فك ارتباطها بالضفة. فهناك حاجة إلى إقناع مؤيدى إسرائيل وشركائها المحتلمين والإسرائيليين أنفسهم بإمكانية تحقق هذا الحل، ويقترن ذلك بتجميد المستوطنات بل وعكس مساره بحيث يصبح واضحاً أن ما حدث مراراً فى غزة يمكن تكراره فى الضفة. يضاف إلى ذلك أن إسرائيل عليها تبنى نظام أمنى فى الضفة الغربية أقل تدخلاً فى تحركات الفلسطينيين وتقييد حريتهم وهذا ليس صعباً.
لكن تشكيل قيادة فلسطينية قادرة على القيام بالتزاماتها الرسمية على المدى الطويل من خلال تفعيل آليات ديمقراطية توفر قدرة حقيقية على اتخاذ القرار وهو ما يتطلب بالتبعبة إعادة إحياء وإصلاح فتح. فالديمقراطية لا يمكن بناؤها وسط الفراغ والواقع يشير إلى صعوبة إجراء انتخابات، فى حين يبدو كمشاطرة للسلطة بين الفريقين، وقد جاء اتفاق مكة فى هذا الصدد غامضاً واعتبر مليئاً بالثغرات أكثر من تضمنه لنصوص واضحة. وحتى مع إحياء مشروع اتفاق مكة وتفعيله فسيكون محملاً بمخاطر على كل الأطراف.
الخيار الثانى: حل الدولة الواحده. وتعتمد فكرته على فكرة الدولة الواحدة المزدوجة قومياً، وهو ما تفرضه القوميات لدى الطرفين، وإن تبناها بعض النخبة الفلسطينية, فى المقابل اعتبرت النخبة الإسرائيلية أن هذا الطرح ضرب فى صميم المشروع الصهيونى. المدافعون عن المشروع من هذه الوجهة من النظر، طرحوا رؤى مثالية تفتقد لتحليل صورة المشروع، وإمكانية تحصينه من قبل طرفين متعاديين ولكنها تبقى فى النهاية فكرة مطروحة لكنها مشوهة. غير أن الدولة فى هذه الحالة لن تقوم على أساس قوميتين تتشاطران الأرض فى إطار تعاونى متساو ولكنها ستكون دولة ينعم فيها البعض بالحرية الليبراليه "امتيازات الديمقراطية" فى مقابل آخرين محرومين من الحرية والأمن. وفى هذه الحالة لن تقوم الدولة على إطار التعايش المتساوى بل على علاقات تتسم بالسيطرة من قبل طرف والمقاومة من قبل الطرف الآخر.
الخيار الثالث: التعايش المؤقت، فقد ثبت عجز الطرفين عن التوصل إلى ترتيبات دائمة ومقبولة للعيش معاً أو منفصلين، فبدلاً من التفاوض من أجل اتفاقية يمكن التوصل إلى ترتيبات تهدف إلى تجنب النزاع المباشر والعنف، وبدلاً من تحقيق المصالحة التاريخية يمكن إقامة استقرار شبيه بوضع الحرب الباردة.
الخيار الرابع: انتصار عسكرى إسرائيلى عن طريق القيام بحملة عسكرية إسرائيلية لطرد حماس من غزة كاحتمال متصور نتيجة الضغوط السياسية التى تثيرها صواريخ حماس، لكن الرد العسكرى غير المصاحب لتخطيط استراتيجى سياسى قابل للنجاح. مثال لذلك فإن نظرية الحسم العسكرى أثبتت فشلها فى العراق .. ونفس الرؤية استوعبتها إسرائيل فى الدروس المتكررة من حروبها مع لبنان.
التصور طرح سؤالاً مهماً: هل يمكن لاجتياح غزة عسكرياً أن يكون هدفاً سياسياً؟، أجاب عنه براون بقوله: على المدى القصير تقوم هذه الحملة باعتقال قادة حماس وتقويض قدرتها العسكرية، لكن على المدى الطويل لن تؤتى هذه الحملة ثماراً لأن حماس تتمتع بتأييد شعبى ولديها القدرة على "إعادة التكوين السريع".
وأسباب ذلك أن الاستراتيجية العسكرية تهدف إلى خدمة أهداف استراتيجية وليست تكتيكية، بل تقوض الحلول السياسية، مثال ذلك الحسم العسكرى فى غزة يقوض حل الدولتين على خلفية إقصاء ركن مهم من القدرات الفلسطينية التى يمكن أن تساهم فى إقامة الحكم الذاتى ويشوه فى نفس الوقت سمعة فتح التى ستظهر فى هذه الحالة شريكاً لإسرائيل، كما أن إدراك إسرائيل أن تحقيق انتصار عسكرى ضد حماس سيكون فارغاً من أى مضمون وهو ما يردعها عن ممارسة أية استراتيجية عسكرية قوية ضد حماس.
التقرير خلص إلى أن من بين الخيارات المطروحة يبقى الخيار الأفضل هو إعادة إحياء "حل الدولتين". لكنه يتطلب سياسة جبارة وقوة على الصبر واهتماماً متبادلاً وقدرة على تحمل المخاطر أكثر مما تظهره الولايات المتحدة فى التعامل مع الصراع. فالزمن المتبقى من إدارة بوش يمكن استثماره فى جعل مهمة الإدارة المقبلة أسهل وهناك مؤشرات تدعم هذه الرؤية وهى سعى رايس فى ظل هذا الحل لكن أطروحاتها يتم تجاهلها وتشويهها. ففى الوقت الحاضر الولايات المتحدة تزيد من تفتيت المؤسسات الفلسطينية عبر اعتمادها سياسة المفاضلة والتأييد لعناصر على حساب الأخرى فى ظل الحرب الفلسطينية الباردة. لكن المقاربة الأمريكية تقوم على فرضية دعم السلطة فى رام الله أمنياً واقتصادياً، لكن فى النهاية تبقى المسألة، فى نظر الفلسطينيين، تدخلاً أمريكياً لإلحاق الهزيمة بحماس وحماية إسرائيل. واقتصادياً المساعدات المالية تقدم لمشروعات تنموية وإنسانية محدودة القيمة.
الخلاصة التى توصل إليها التقرير هى أنه ليس مطلوب من الإدارة الحالية أكثر من أن تؤسس لأرضية جادة للإدارة التى ستخلفها أكثر من أن تعمل على اتفاق سرعان ما ينهار، وذلك من خلال التوقف عن وضع أية عقبات فى طريق مشاطرة السلطة بين الفلسطينيين. والسعى إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، بالإضافة إلى عدم التشدد فى موضوع التعاطى مع حماس، وكذلك التوقف عن إضفاء الصفة الشخصية من خلال تأييد السياسيين المفضلين لديها. والاهتمام بإصلاح حركة فتح مع إحياء قدرة الفلسطينيين على الاختيار بدعم آليات الحكم الديمقراطى.
الدولة ..الدولتان ..الحرب الباردة.. الحسم العسكرى
4 سيناريوهات فلسطينية للإدارة الأمريكية القادمة
الأحد، 01 يونيو 2008 02:37 م
محمود عباس وإسماعيل هنية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة