عندما يحل شهر مايو كل عام يتذكر المصريون – ومعهم العرب – ذكرى عام 1948 والذى أطلق عليه عام النكبة، أى نكبة؟ إنها نكبة وجود إسرائيل على خريطة الشرق الأوسط وهزيمة الجيوش العربية الستة التى راحت لتطهير فلسطين من العصابات اليهودية .. وانتهت بوجود إسرائيل الفعلى وتنامت أيديولوجيا القومية العربية التى تغنى بها العرب جميعا وأولهم مصر الناصرية – وما بعدها – إيه الحكاية؟ الحكاية من هنا ....
كان طموح الملك فاروق ، ملك مصر قبل 23 يوليو 1952م أن يتوج خليفة للمسلمين، فبادر بحث محمود فهمى النقراشى باشا رئيس وزراء مصر آنذاك فى عام 1948 لأخذ موافقة برلمانية لدخول مصر ضمن ست دول حرب تحرير فلسطين فى 15 مايو 1948م بعد إعلان دولة إسرائيل وعاصمتها القدس فى 14 مايو، وبالفعل استجاب النقراشى باشا الذى كان معارضا للاشتراك فى هذه الحرب الذى كان يدرك نتائجها، وبالفعل انطلقت الجيوش ومنيت بهزيمة ساحقة ولم تستفد لا من قرار التقسيم رقم 191 فى 29 نوفمبر 1947 ولا من الحرب التى شنتها لتحرير فلسطين ... وأصبحت إسرائيل أمرا واقعا ... خاصة بعد اعتراف الدولتين الكبيرتين آنذاك بها وهى الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى السابق.
ثم ثار رجالات الجيش المصرى وانقلبوا على الحكم الملكى عشية الثالث والعشرين من يوليو 1952م وما إن وصلوا إلى سدة الحكم ونتيجة لما عانوه فى حرب 1948م ازدادت طموحاتهم لفرض أيديولوجيتهم على الدول المجاورة تحت حمى القومية العربية والدفاع العربى المشترك، وكانت قضية فلسطين هى محور هذه القومية، إلا أن الأحداث جرت عكس ما كان يتوقع هؤلاء الضباط، فرغم خطاباتهم النارية على إنهاء الكيان الصهيونى وإلقائه فى البحر وجدناهم يخسرون المعارك واحدة تلو الأخرى، حيث أسسوا مفهوما جديدا ظل سائدا حتى الآن ألا وهو "عندما تمسك الزناد وتهدد بإطلاق النار على العدو فهذا ضمنيا يعنى الانقضاض على الجار العربي" .. بدأت بدخول مصر اليمن أيا كانت الدعاوى، حتى أنه – طبقا للفريق عبد المحسن مرتجى – قائد القوات فى هذه الحرب قال للرئيس عبد الناصر عن الخسائر التى تنال الجيش المصرى وأهمية الانسحاب، إلا أن الرئيس رفض قائلا (Our Prestige) وتوحدت مصر وسوريا ثم انفصلتا بسبب التآمرات المزدوجة ولعدم قناعة الشعبين ولا السلطتين بهذه الوحدة التى لم تستمر سوى سنوات لم تتجاوز الأربع.
وظل هذا المفهوم سائدا بدخول القوات السورية لبنان والعراق الكويت وحشد الحشود على أطراف كل من اليمن واريتريا واليمن والسعودية والجزائر والمغرب وليبيا ومصر وقطر والبحرين وغيرها كثيرا .. فماذا يعنى ذلك ... هل يعنى ذلك تشكيكا فى فكرة القومية العربية والعروبة، أم يعنى أن هذه الفكرة لم تكن قائمة على سند منذ أواسط القرن العشرين التى نمت فيه واستشرت وسرت فى جسد كل وطن كالفيروس النشط ثم همد هذا الفيروس بعد الأحداث المفجعة التى بدأت عشية الخامس من يونيه 1967م، رغم الشعارات الطنانة عن الشعب الواحد والمصير المشترك ...
إن القومية العربية كفكرة قد ماتت أمام دعمها للاستبداد وتغييب الديمقراطية من خلال التغنى بهذه الفكرة لإرساء دعائم نظم بعينها والإصرار على خلق عدو جاهز، مثلما حدث فى مصر الناصرية التى أجل نظامها السياسى الشمولى المستند إلى القومية العربية لتحقيق أحلام نظام سياسى مستبد على حساب كافة قضايا الشأن الداخلى وتفعيل قيم المشاركة السياسية وحقوق الإنسان المصرى .. وذلك بحجة وجود عدو خارجى جاهز دائما للانقضاض علينا ألا وهو إسرائيل .. ولم يكن هذا النظام هو الوحيد فى هذه المنطقة التى تغنت بالقومية العربية، فكان الحال نفسه فى سوريا البعث وعراق البعث وأردن الهاشميين وسعودية آل سعود وسودان النميرى وغيرها .. فتآكلت القومية التى كان يتغنى بها هؤلاء السادة ونخبهم الثقافية التى آمنت بهم وبمشروعهم حتى أوقظوا على كوابيس الواحد تلو الآخر منذ يونيو 1967م وحتى سقوط صدام حسين فى 2003م ... وما بينهما الكثير والكثير .... من هنا انتهت الحكاية،
ولكن لا يزال التغنى بعام النكبة وذكرى احتلال فلسطين وضياع الحلم العربى والخطابات والشعارات الرنانة بدءا من شعب واحد ومصير واحد وعدو مشترك هو الخطاب الأيديولوجى الشفهى الذى يتصدر اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات، ماذا حدث ولماذا ومتى بدأت الحكاية وليه؟ فالإجابة لدى هؤلاء .. "هى كده ومن غير ليه" ... وعاشت إسرائيل دولة فوق القانون .. دولة أقيمت بأخطاء تاريخية .. دولة اكتسب شرعية وجودها الأساسى من الذهنيات الأيديولوجية العربية سابقا، ومازالت تستمد قوتها وإبداعها وتطورها وإنجازاتها من الذهنيات الأيديولوجية المعادية للتسويات السياسية وقوى الحرب واللاسلام، وستواصل هيمنتها وتكسير عظام الآخرين إما بالجدران العازلة والحصارات أو القصف البارودي، وذلك أيضا بشرعية ثقافات الاستشهادات المجانية والغوص فى البحيرات المريرة من دماء الأطفال التى تروى ظمأ المتعطشين للسلطة ... ويستمر مسلسل هستيريا الدمع الزائف مستمرا .. وإن سألت ليه ... ستجد الإجابة أيضا ... "من غير ليه" ..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة