فى عام 1958 كانت مصر تبحث عن نفسها، لاختيار الطريق الصحيح فى مرحلة ما بعد معركة السويس، وتفكيك النظام الملكى وإعلان الجمهورية. وطرح الكاتب خالد محمد خالد فى هذا الوقت القلق، شعاره مع نداء بأن الديمقراطية هى الحل والبوصلة التى تقوده إلى بر الأمان. كان "خالد" الكاتب الدينى المستنير، حصاد مرحلة تفاعل الليبرالية المصرية مع تراثها الدينى والقيمى الرافض للاستبداد والكهانة والمنحاز إلى حرية تعيد بناء الأمة، على أسس المعاصرة والاستناد على فهم التراث بشكل سليم.
أصدر خالد محمد خالد فى هذا الوقت كتابه "الديمقراطية أبداً" مع عنوان فرعى يشير بأن أخطاءها يتم تصحيحها بالمزيد منها وليس قمعها. ولم ينصت النظام آنذاك لدعوة خالد محمد خالد والمحذرة فى الوقت نفسه، إذ إن الطريق الآخر باعتماده على قبضة الدولة وأجهزتها، سيكلف مصر الكثير من المعاناة والألم. وعندما حدثت نكسة 1967، أدرك الجميع أن غياب الديمقراطية وراء الهزيمة الدامية، وأن إزالة آثارها عبر فتح الأبواب والنوافذ كلها، حتى يتنفس الشعب ويكون قادراً على استرداد أرضه.
شهدت مرحلة ما بعد النكسة، الحوار الساخن بشأن دور الصحافة، لأن مظاهرات غاضبة ومحتجة فى عام 1968، طالبت بصحافة حرة لأن "العيشة مرة" كما كان يتردد من شعارات خلال هذا التمرد على سلطة أخطأت الطريق وتعثرت فى ظلام القيود مع غياب لدور الصحافة غير المقيدة.كان لدور الصحافة الحرة فى المرحلة الليبرالية وظيفتها فى كشف انحرافات وتجاوزات. ويذكر التاريخ حملة إحسان عبد القدوس لكشف صفقات الأسلحة الفاسدة، والدور الذى قام به صحفيون للدفاع عن ثوابت المهنة مع الحق بكل أشكاله.
كشفت نكسة 1967، أن اختيار طريق الاستبداد يدفع بالبلاد إلى هاوية وخراب حقيقى. وبدأت الأنظار تعود لكتاب خالد محمد خالد "الديمقراطية أبداً" للوقوف على ما جرى لتجاهل على هذه الدعوة والسباحة ضدها تماماً. كان الأمل أن يدرك الوعى الوطنى هذه الحقيقة، التى برزت من خلال ألم النكسة، حتى يندفع فى طريق آخر يقود إلى تنمية ودفاع عن مستقبل أجيال وإنقاذ ثرواتها من الإهدار والفساد.
أعطى تأمل مرحلة النكوص عن الديمقراطية، اكتشاف المآسى الكبرى من وجود المعتقلات والتعذيب والمصادرة للحريات، مما أضعف جسد الوطن وخلق حالة من التردى، نتيجة الخوف الذى أشعل النفاق ومظاهر الانحلال الاجتماعى بكل أشكاله. وإذا نظرنا إلى رواية نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل" سنجد صورة لمصر المرتبكة والحزينة، وهى تندفع بسفينتها نحو الضياع. ونشر الكاتب روايته قبل النكسة، حيث تنبأ بها ووصف أحوال أمته وهى غارقة فى دخان يلفها من العمى والعجز، وعدم القدرة على التفاعل والمشاركة.
ولعل كتابات "محفوظ" فى المرحلة النقدية, هى وصف لأحوالنا بلا ديمقراطية. ورواية "السمان والخريف" المبكرة، تحدثت أيضاً عن العجز الذى أصاب بطلها الوفدى القديم، نتيجة طرده من الساحة وانفراد الضباط بالسلطة وإقصاء الآخرين عنها. وعندما نعود إلى ما بعد صدور كتاب خالد محمد خالد "الديمقراطية أبداً" نشعر بأن عدم الالتفات إلى هذه الدعوة، وضع البلاد فى مأزق تاريخى، إذ حدثت الاعتقالات الكبرى فى عام 1959، مع استخدام التعذيب البشع، والذى سجلته كتابات تم نشرها فى السبعينيات تصف قسوة ما حدث.
وأيضاً فى عام 1965 بدأت حملة اعتقالات واسعة، أدت إلى إعدامات مع سجن واعتقال وتعذيب, وجاءت النكسة لتؤكد أن هذا الطريق خاطئ ومؤلم ويعرقل حركة المجتمع كله.
وكلما أزور إسبانيا، أتأمل أحوالها، حيث كانت مخنوقة تحت حكم الجنرال فرانكو وأطلق سراحها تحت حكم الملك خوان كارلوس. وفى العهد الأول ساد الاستبداد فتعطلت أحوال الأمة كلها، لكن فى زمن الديمقراطية وتداول السلطة، يسود عهد جديد دفع تلك البلاد إلى نهضة حقيقية صناعية وإبداعية على جميع المحاور.
والذى فجر طاقات الشعب الإسبانى, حرية تكاد تكون مطلقة، لكن فى ظل القانون وحمايته. وحتى بعد انفجارات إرهابية فى مدريد لم يندفع الأسبان نحو الاستبداد مرة أخرى، لأنهم جربوا نيرانه المحترقة. إن الدول تنتعش بالحرية وتموت بالاستبداد، ويخنقها قانون الطوارئ البشع. إن الحاجة دائماً إلى وجود نبض الحريات حتى يتحرك البشر ويبدعون. فى عهد فرانكو كان المثقفون والفنانون الأسبان يهربون من بلادهم، مثلما فعل بيكاسو وغيره، لكن مع عودة الديمقراطية بهذا الزخم، أصبحت إسبانيا ساحة للإبداع الجميل والمتألق. والفضل يعود إلى نظام مستقر يثق بنفسه وقدراته وينشر معانى الأمان والطمأنينة على الجميع، فيظهر هذا الإبداع والنمو فى مجالات الحياة.
وكان يمكن لمصر أن تتمتع بثورة وطنية ترفع لواء الحرية والديمقراطية، غير أن عدم الثقة والخوف دفع نحو استخدام البطش بشكل مروع، مما قتل الروح وجعلها غير قادرة على الدفاع عن نفسها أمام عدو غاصب وفاجر. وعندما نقرأ صفحات ما قبل ثورة يوليو، نرى حياة أكثر ثقة، لهذا تألق عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وكان صوت أم كلثوم مع محمد عبد الوهاب وعشرات المطربين ودور السينما والمسرح وصالات عرض الفنون.
كان من نتائج الاستبداد, انتشار التيارات الظلامية التى استفادت من تدنى مستوى المعيشة وانتشار الإحباط، فنمت أفكارها فى ظل غياب المثقف الليبرالى الواعى وتلاشى مساحات الأمل التى كانت موجودة على أرض مصر فى بداية القرن الماضى. وقد عرف الإسبان الحل لدفع بلادهم نحو النور والأمل، وذلك بالانفتاح الشديد على الديمقراطية لتحقيق الاستقرار، إذ إن الشعوب تبدع فى ظلها وتموت فى غيابها. ولعل هذا هو ما دفع خالد محمد خالد فى عام 1958 لإطلاق صيحته الشهيرة "الديمقراطية أبداً" لكن الآذان لم تكن منصتة، وثقة الحكم بنفسه ضعيفة، فجرت الاعتقالات وممارسة التعذيب ودفع التقدم الاجتماعى والحضارى الثمن الباهظ، فتراكمت المشكلات وزاد الإحباط وخرجت جماعات التكفير والعنف تضرب فى كل مكان. وإذا كان صوتهم، تراجع، فإن فتاواهم تمارس الدور نفسه فى تقزيم المجتمع وإغراقه بقيود الجهل وتجريم الفن والإبداع.
لو كنا استمعنا لنداء خالد محمد خالد فى عام 1958، لكانت السفينة أبحرت فى مياه الثقة والإبداع، لكن الخطأ التراجيدى حدث، وعلى الناس فتح الكتب لقراءة خرائط الإنقاذ لبناء الأوطان كما فعل الإسبان بعد انهيار نظام فرانكو.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة