لم يعد سراً أن العلاقات المصرية الأمريكية تعانى توتراً عميقاً، وهذه الأزمة يمكن توصيفها باعتبارها أزمة نمو. ويقصد بهذا النوع من الأزمات فى العلاقات الدولية هى الحالة التى تعانى منها علاقة عميقة ممتدة بين دولتين عندما يحاول، طرف ما فى هذا العلاقة تغيير قواعد العلاقة مع عدم استعداد الطرف الآخر للاستجابة الفعالة مع هذا التغيير فى قواعد العلاقة، هذا فى ظل رغبة الطرفين فى استمرار العلاقة بينهما لما توفره لكليهما من وظائف استراتيجية. وتشدد الأزمة مع تصاعد رغبة الطرف الأقوى دولياً فى هذا التغيير لقواعد العلاقة. بعبارة أخرى، أن الأزمة تنبع من اتساع اختلاف كلا الطرفين فيما يجب أن تكون عليه مقتضيات العلاقة لاستمرارها ونموها بشكل أكبر فى المستقبل. ويمكن تلخيص هذا الاختلاف فى الإشكاليات التالية:
1- إشكالية تعريف الإقليم، فالولايات المتحدة الأمريكية أصبح لديها تصور استراتيجى لما يجب أن يكون عليه الإقليم الجيو ـ الاستراتيجى الذى تتمحور حوله العلاقة، مختلف فى اتساعه وعمقه وموضوعاته عن الطرف المصرى. فمصر لازالت تتمسك بمفهوم العالم العربى أو على الأكثر، الشرق الأوسط الضيق، بينما أضحت أمريكا ترنو إلى التخطيط للحركة الدولية اعتماداً على مفهوم الشرق الأوسط الكبير أو الموسع.
2- إشكالية تعريف السلام، ولدت العلاقات المصرية الأمريكية الجديدة مع اتفاقية السلام المصرى الإسرائيلى، حيث لعبت أمريكا دور الراعى والحامى والضامن لهذه العملية. ولكن بسبب محاولة مصر التوازن مع بعض مقتضيات التصورات الشعبية للشرعية العربية، ومقتضيات التصورات السائدة لبعض المؤسسات المصرية حول الأمن القومى، (يجب تذكر أن بدء عملية السلام المصرى الإسرائيلى أطلقت حرباً صامتة بين مؤسسات صنع القرار المصرى آنذاك)، هذا فى الوقت الذى اختلفت فيه التصورات الاستراتجية الإسرائيلية الأمريكية فى تغليب اعتبار مكافحة الإرهاب باعتباره المدخل الفعال للحفاظ على السلام الإقليمى وليس التوازن الإقليمى كما تسعى إليه مصر.
3- إشكالية تعريف الديمقراطية، استمرت القضية الديمقراطية قضية هامشية فى التفاعل المصرى الأمريكى حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضى حيث تم تثمين أكبر لمسائل الاستقرار الداخلى والإقليمى والتنمية الاقتصادية المصرية. ولكن مع تغير ذهن ومفهوم الجانب الأمريكى بأن التنمية الاقتصادية من غير أن تصاحبها تنمية سياسية ومراعاة لحقوق الإنسان لا يمكن أن تؤدى لاستقرار داخلى وإقليمى، وأن جزءاً كبيراً من المكافحة الفعالة للإرهاب، ينبثق من ضرورة إعادة هيكلة البيئة الداخلية فى البلاد العربية بما فيها مصر، مما أدى إلى ضيق كبير للجانب المصرى لما يملية ذالك من مس كبير بوتر الاستقلال الحساس فى الثقافة السياسية المصرية.
4- إشكالية تعريف الولاء والتوقعات، من طبيعة العلاقات الممتدة أن تخلق قدراً من الأرضية المشتركة للتوقعات والولاءات والاستجابات الإيجابية. ولكن الولايات المتحدة الأمريكية صارت ترى أنها تساهم فى العلاقة مع مصر بشكل أكبر مما تتلقاه من عائد دولى أو إقليمى أو داخلى. فتم اتهام مصر بأنها أكثر اهتماماً بشئونها الخاصة الإقليمية أو الداخلية أو الدولية من العمل على تنمية الأرضية المشتركة بين الدولتين فى الميادين المختلفة.
5- إشكالية تعريف الدفاع المشترك، يعتبر منطق الشراكة الاستراتيجية جزءاً حيوياً من استمرار العلاقات المصرية الأمريكية وخاصة فى مجال وقضايا الدفاع والمعلومات، فى هذا السياق يتم اتهام مصر بأنها تبدى من المؤشرات ما يجعل الجانب الأمريكى قلقاً بشأن مدى استعداد الجانب المصرى فى المشاركة العملية فى صناعة الرؤية الأمريكية للعالم استراتيجيا وتعبوياً.
هذه الأزمة، أزمة معقدة متعددة بسبب تعدد مستوياتها وموضوعاتها، ولابد من العمل على الخروج من الأزمة لأنه كلما تأخر الخروج كلما تعقد الوضع، وضاق مجال المناورة واحتمال المصريين وانقلبت الأزمة من أزمة نمو إلى أزمة اختناق.
ويصبح السؤال كيف يمكن إحياء العلاقات المصرية الأمريكية بشكل يسمح لها أن تتجاوز أزماتها لتصبح آلية نمو مستمر؟ ويقصد بأن تكون العلاقة بين الدولتين آلية للنمو حيث تتراكم إيجابيات التفاعل، وتفتح مجالات جديدة للتفاهم، وتخفض نوازع التوتر. الأمر الذى يساعد فى نهاية الأمر على خلق علاقات مصرية أمريكية جديدة. ومن أمثلة العلاقات بين الدول التى تأخذ شكل "آلية نمو" نجد النموذج الأول، كالعلاقات الأمريكية البريطانية حيث تلعب بريطانيا لأمريكا دور الموصل فائق الجودة للعلاقات الأوروبية الأمريكية، وتكسب بريطانيا دوراً ملحوظاً فى خطط الإمبراطورية الأمريكية. الأمر الذى يعنى أنه طالما مارست أمريكا دوراً عالمياً، طالما انتعش الدور البريطانى. ولكن لا يجب فهم هذا الدور باعتباره دوراً تابعاً من الجانب البريطانى، ولكن باعتباره دوراً مساعداً وله أجندة خاصة به ويعتمد على التوافقات فى القيم الاستراتيجية العامة بين الطرفين، وبالتالى فى الحركات الاستراتجية داخل المناطق المختلفة فى العالم. ونجد أمثلة مشابة للعلاقات البريطانية الأمريكية فى العلاقات الإسرائيلية الأمريكية، والعلاقات الأمريكية الشرق أوروبية بصفة عامة. النموذج الثانى، كالعلاقات الأمريكية التركية، حيث تلعب تركيا دوراً جديداً فى سياق العلاقات التاريخية الممتدة، ألا وهو دور النموذج لمحيط الإقليم الثقافى الإسلامى. ويقوم هذا النموذج على مدنية الحكم والتوافق مع القيم الغربية للديمقراطية والعلمانية واحترام الحريات الفردية ونزع رغبات التوسع الإقليمى. وتنكب أمريكا بالمساعدة على قمع مصادر الإرهاب الثقافية، وكسر الخصوصية الأوروبية المسيحية، وترويج فكرة التسامح. ونجد أمثلة مشابهة للعلاقات الأمريكية التركية فى العلاقات الأمريكية الهندية، والعلاقات الباكستانية الأمريكية، والعلاقات الأمريكية مع الدول الإسلامية فى آسيا الوسطى. فى ضوء هذين النموذجين يمكن اقتراح نموذج ثالث بأن تبنى العلاقات المصرية الأمريكية الجديدة على اعتبار مصر واحدة من النقاط الهامة والمراكز الرئيسية فى تحقيق العولمة الاقتصادية والسياسية. بهذا لا تصبح التسوية الإقليمية هى أساس العلاقات المصرية الأمريكية ولا حتى الدور الإقليمى الثقافى فى العالم العربى، حيث يلاحظ أن هناك جامعات عربية ومراكز ثقافية عربية تعتبر الآن أكثر ثقلاً من مثيلاتها المصرية. هذا فضلاً عن أن هذا التصور يتوافق مع مقتضى هام من مقتضيات الأمن القومى بضرورة جعل مصر جاذبة للاستثمار الدولى بشكل مستمر ودائم. فى هذا السياق تتشابه العلاقات المصرية الأمريكية مع العلاقات بين ماليزيا وأمريكا، وأمريكا وجنوب أفريقيا. هكذا تعاد صياغة العلاقات المصرية الأمريكية وتعاد صياغة مصر ودمجها فى النظام الدولى والحضارة الحديثة، وربما لأول مرة منذ الحكم البيزانطى.
* أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية جامعة حلوان
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة