كثيرة هى الوقائع الدامغة التى تؤكد أن القوى الميليشياوية المحلية هى التى غيبت الدولة اللبنانية وأفقدتها شرعيتها على أرض الواقع، وأن هذه السلطات الميليشياوية تحاول جاهدة وبكل أشكال الدعم والمبايعة الخارجية ترسيخ المؤسسات اللا شرعية التى بنتها فى ظروف سياسية معينة خلال العقدين الأخيرين على حساب المؤسسات الشرعية.
وبعد أن نجحت فى تغييب شرعية الدولة مرحلياً وفى تفكيك مؤسساتها الدستورية والإدارية والإعلامية بل والعسكرية، تحاول أيضاً تفكيك المجتمع بكامله وفسخ تماسك البنيان الاجتماعى وإعادة فرزه على الأسس التى كانت سائدة قبل قيام الدولة اللبنانية الحالية أو دولة لبنان الكبير. وتم إفراز الطائفية بمعناها الذليل والحقير والتابع والتى غيبت شرعية المجتمع اللبنانى الموحد، كما غيبت شرعية الدولة اللبنانية الواحدة لكى تسهل أمام القوى الطائفية بميليشياتها العسكرية مهمة تجديد النظام الطائفى وفق مواصفات خاصة لمن يمول هذا التفكيك.
فبعد أن اضطر النظام السورى – الباب العالى - للانسحاب من لبنان بضغط لبنانى شامل، ما لبث أن اعتمد على التركيبة التقليدية لمجتمع الطائفية وتم العبث باستقلال لبنان وسيادته وبث روح الفوضى والاغتيالات. فخلال عامين فقط تحول لبنان لساحة لإدارة المعارك المجانية الغرض منها فقط استعراض قوى نظام الباب العالى الذى لم يستطع استرداد حقوقه المغتصبة من إسرائيل، وتفويضه وكلاء لبنانيين لزعزعة الاستقرار اللبنانى على اعتبار أن ذلك يسهل مهمته كورقة ضغط للحصول على حقوقه، وهو ما لم يحدث. فلم يسترد نظام – الباب العالى – حقوقه من إسرائيل ولا استطاع لبنان أن يمارس استقلاله وسيادته نظراً لميليشيات هذا النظام.
كما كان أيضا استعراضاً لقوى أخرى شيعية تتعامل مع لبنان على أنه ساحة للتراشق الطائفى، ودعمت بكافة الوسائل حزب الله الشيعى المتطرف، لتوفر له شروط تغييب شرعية الدولة اللبنانية، وبث قمة التضليل الأيديولوجى الذى تمارسه هذه القوى الطائفية من خلال محاولة الادعاء بأن أزمة النظام السياسى وضعف المؤسسة العسكرية هما اللذان أفرزا هذا الوجود الميليشاوى، وأن عدم قدرة الدولة اللبنانية فى الحافظ على استقلالها وسيادة قرارها هو ما دعا هذه الطائفية أن تنمو وتتكاثر، وأن تترسخ ميليشيات حزب الله بحجة أنه الوحيد الموكل إليه الدفاع عن لبنان ضد إسرائيل وأنه الحصن الأول لصد الهجمات الإسرائيلية..
ولكن النتائج بعد ذلك كشفت عورات هذا التنظيم العلنى الذى يمارس كافة أشكال العنف السرية والعلنية، وبعد أن توارت إسرائيل وانسحبت من لبنان انفرد حزب الله بميليشياته لاحتلال الدولة اللبنانية، ولكن للأسف هناك من يعتبرون ذلك أمراً طبيعياً بل وضرورياً لأن حزب الله هو الحزب الوطنى الذى يدافع عن لبنان ضد إسرائيل وأنه الممانع للتطبيع مع حليفه نظام الباب العالى وكذلك داعمته الاقتصادية والعسكرية إيران الشيعية، ويعتبرون أن ما حدث بعد الخامس من مايو بعد خروج ميليشيات حزب الله النصراوى إلى شوارع بيروت كان أمراً طبيعياً لأن مجموعة الموالاة من النظام الشرعى اللبنانى افتقدوا الوطنية ومال ولاؤهم للأمريكان والإسرائيليين ودول الاعتدال والتطبيعيين .. ولنقرأ ما يلى:
"إذ كان مطلوبا أمريكيا وإسرائيليا التخلص من ذلك السلاح – سلاح حزب الله – لتحقيق أهداف عدة من بينها تطويع لبنان وإلحاقه بقطار التطبيع ومربع الاعتدال وإضعاف الموقف السورى الممانع وإحكام الحصار حوله" .. بهذه الكلمات يفسر الأستاذ فهمى هويدى ما جرى فى بيروت فى مقالة بالأهرام بعنوان (محاولة فهم ما جرى فى بيروت فى 20/5/2008)".. فهو يعتبر أن ما فعله حزب الله من احتلال بيروت – عاصمة الدولة اللبنانية – وما تبع ذلك من محاولات سياسية لتفكيك ميليشيات نصر الله، وهو مطلب لبنانى بالإجماع منذ انسحاب القوات الإسرائيلية فى 2000، أقول اعتبره السيد هويدى مطلباً أمريكياً وإسرائيلياً لإلحاق لبنان بقطار التطبيع ومربع الاعتدال وضد المتاريس الممانعة لذلك والتى تمثلها - فى وجهة نظره - سوريا ونصر الله بدعم سورى وإيرانى وهو ما يكشف توجهاته من أن ما فعله نصر الله وميليشياته التى انتشرت بعد الخامس من مايو هو صد للطموح الأمريكى والإسرائيلى لعدم صعود لبنان قطار التطبيع.
ورغم الالتباس الواضح فيما أسماه هويدى قطار التطبيع ومربع الاعتدال، فقد نسى أو تناسى أو غفل – واعتقد عمداً – أن ما فعله نصر الله وميليشياته ليس له علاقة على الإطلاق برغبة الولايات المتحدة أو إسرائيل، قدر رغبة كل اللبنانيين فى نزع سلاح حزب الله وتحويله إلى حزب سياسى له جميع الحقوق السياسية مثله مثل أى حزب سياسى مدنى آخر، وليس حزباً دينياً يدعى أنه حزب الله وكأن الآخرين جميعا ينتمون لحزب الشيطان .. فالشيطان لدى نصر الله – وأظن لدى هويدى – هم اللبنانيون بكل طوائفهم، خاصة تلميحاته بأن هؤلاء ولاؤهم للولايات المتحدة.. فهل غفل السيد هويدى أن القرارين اللذين أصدرتهما الحكومة قبل الخامس من مايو الأسود كان أحدهما إقالة مدير أمن مطار بيروت لسبب محدد وهو السماح لطائرات إيرانية بالهبوط والإقلاع دون إبلاغ السلطات الشرعية.
فهل هذه السياسة تفرز سيادة دولة لبنان أم أنها مخترقة من دولة إيران لأسباب يعلمها هويدى نفسه قبل نصر الله .. فهل هذا الفعل لا يندرج تحت الخيانة، خيانة الوطن والسيادة.. ومن المؤكد أن السيد نصر الله سمح بذلك لأنه يدرك أنه يمتلك القدرة على صد أية ممارسات ضد هذا السلوك، وهو ما حدث فعلا. إذن فأين التطبيع وأين أمريكا وأين إسرائيل وأين مربع الاعتدال؟.. إن اللبنانيين فقط يريدون وطناً ذا سيادة يحكمه اللبنانيون برئيس لبنانى لكل اللبنانيين وليس كرئيس دينى لدويلة داخل الدولة.
ولكن هناك من يرحب بحزب نصر الله وحماس اللذين انتقلا بنا بأيديولوجيتهما الدينية من خلاف حول الصلاحيات إلى طمع فى السلطة والاستئثار بها وتقسيم الأوطان ووضعا بلديهما على حافة الهاوية كأحد وكلاء الحرب ومتعهدى السياسات الانقلابية بأيديولوجيات دينية طائفية وبمراهقة سياسية واستراتيجية يستحقان عليها الشكر العميق من صقور ونسور إسرائيل .. ووضعا أوطانهما على حقول البارود والديناميت وصاروا يتحركون بين عاصمة وأخرى يتلقون التدريبات على تجزئة أوطانهم بلحى التمرد وشعارات الطائفية الفاشية الذليلة، مفضلين الارتواء من بئر السلطة وفسادها على حياة شعوبهم وسلامهم.. وكل ذلك بحجة – كما يدعى البعض – أنهما ضد مربع الاعتدال ورافضا صعود قطار التطبيع .. ولكن حقيقة الأمر فإن مربع الاعتدال أفضل بكثير من مثلث الانقلاب الذى يقوده حزب الله الطائفى والباب العالى الاستبدادى ونظام إيران الشيعى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة