زار السيد برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسى الأراضى الفلسطينية المحتلة وأدلى بتصريحات تثلج الصدر قال فيها: "على إسرائيل أن توقف الاستيطان" ! وطالب بضرورة تخفيف المعاناة عن الفلسطينيين، ونادى بضرورة إقرار الأمن والسلام فى المنطقة بإقامة دولتين: فلسطينية إلى جانب العبرية. وبات مطلوباً منا أن نفرح، ونفرك الأيدى طرباً ونشوة، ففرنسا - الدولة الكبرى والعضو الدائم فى مجلس الأمن، والعضو الفاعل فى حلف الناتو، والعضو البارز فى مجموعة الدول الثمانى الصناعية الكبرى - قد تحدثت بما ينبغى فعله إقراراً للأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط. وفى الجانب الفلسطينى اتهم الرئيس محمود عباس وطالب "راجياً" فرنسا- ومن خلفها أوروبا - بأن تلعب دوراً فاعلاً فى عملية السلام.
أريد أن أذكرّ بأن هذا المشهد سواء من جانب فرنسا "وأوروبا" أو من جانب الفلسطينيين تكرر مثنى وثلاث ورباع فى العقود السابقة مع اختلاف فى الأشخاص والأفراد. والسبب - من وجهة نظرى - هو أن هناك مساحة تغيب عن بالنا فى الجانب العربى وهى مساحة لتوزيع الأدوار، فالولايات المتحدة وأوروبا تنسقان مواقفهما تنسيقاً كاملاً بحيث إذا اضطرت بعض الظروف الداخلية مثلاً أن تعطل دور إحداهما إلى حين، نجد أن الدور الآخر ينشط ولا يكف عن الحركة وإعلان التصريحات. وترجمة ذلك - عملياً - هو فيما نراه اليوم، فالولايات المتحدة مشغولة بالانتخابات الرئاسية، وساكن البيت الأبيض " أقصد الرئيس جورج دبليو بوش" مشغول هو الآخر، بلملمة أوراقه وترتيب حقائبه استعداداً للرحيل من المكتب البيضاوى الذى أقام فيه نحو ثمانى سنوات.
فكان لابد أن تعطى إشارة من نوع ما إلى فرنسا وأوروبا لكى تتحركا حتى يبقى الدور الخارجى فاعلاً ومؤثراً، ولذلك جاء السيد برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا إلى المنطقة، وسوف يأتى كثيراً فى الأشهر القليلة القادمة وربما ينافسه فى المجىء إلى المنطقة السيد شيتاينماير وزير خارجية ألمانيا، ولا بأس أيضاً فى زيارات سريعة يقوم بها وزيرا خارجية بريطانيا وإسبانيا. كل ذلك فى إطار ملء الفراغ الذى كانت تشغله السيدة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية بزياراتها المكوكية التى لم تحرك ساكناً، ولم تخرج هى الأخرى عن حدود التصريحات التى تعطينا فى بعض المرات من طرف اللسان حلاوة.
ولأننا متهمون بأن ذاكراتنا مليئة بالثقوب وحالها فى هذا أشبه بحال قطعة الجبن الفرنسية فلابد أن تستدعى أحداثاً مشابهة جرت فى نهاية فترة الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون أو تحديداً منذ نحو تسع سنوات.. كان الرجل - قبيل خروجه من البيت الأبيض - مشغولاً بترتيب الرحيل، وكانت المفاجأة أن فرنسا و"أوروبا" خرجت علينا بحديث ملأ الأرجاء حول مبادرة أوروبية بشأن عملية السلام، وكان مهندس هذه المبادرة وزيرى خارجية فرنسا وإسبانيا. وأحدثت المبادرة - بمجرد الإعلان عنها - دوياً فى الأوساط العربية التى رحبت - كعادتها - بأى تحرك أوروبى يساعدنا فى الخروج من قبضة القطب الأوحد" الولايات المتحدة الأمريكية".
وأذكرّ بأننا انشغلنا طوال الأشهر الأخيرة من العمر الرئاسى لبيل كلينتون بالحديث عن الدور الأوروبى المفقود، والذى عاد بعد غياب، وأفضنا فى تحليل التوازن المرغوب بين القوتين "الأمريكية والأوروبية" دون أن ننسى توجيه الانتقادات اللاذعة لاحتكار أمريكا القرار الدولى، وانفرادها كراعية لعملية السلام فى الشرق الأوسط، وظللنا ندور فى هذا " الحديث اللذيذ" عدة أشهر دون أن يتقدم الوضع - على أرض الواقع - خطوة واحدة.. فزيارات "فرنسية وإسبانية وإيطالية وبريطانية" احتلت عناوين الصحف ونشرات الأخبار محاطة بآمال وأمنيات ورغبات مشبوبة تريد السلام ووقف الدماء التى تسيل فى الأراضى المحتلة.
حتى إذا استقر المقام للساكن الجديد فى البيت الأبيض" وكان فى هذه الحالة" الرئيس جورج دبليو بوش، وجدنا الدور الأوروبى يعود إلى سابق عهده منكمشاً لا يتجاوز حدوده الضيقة، ولا نكاد نسمع له أى صوت أو تصدر عنه أية حركة إلا فى أضيق الحدود، وفى الإطار المسموح به أمريكياً. ما معنى هذا الكلام؟ - معناه أن أمريكا وأوروبا لا تختلفان عن بعضهما البعض وأن التنسيق بين مواقفهما أمر استراتيجى يرسمانه معاً وفق مصالحهما فى المنطقة.
ومعناه أيضاً أن قرار"تمدد" أوروبا أو "انكماشها" هو قرار أمريكى، فأوروبا تصبح مارداً يصول ويجول، ويبعث بوفوده ومبعوثيه إذا ما أرادت أمريكا ذلك، وبالصورة المسموح بها، والمهمة هى ملء الفراغ الأمريكى إلى حين، ثم تعود إلى دوائر الانكماش إذا ما استتب الأمر لساكن البيت الأبيض ليتولى بنفسه هذه اللعبة التى لا تخرج عن انحياز تام لإسرائيل فعلاً لا قولاً، ثم الاكتفاء بحديث مرن بعض الشىء "ملىء بالتسويفا" للجانب العربى الذى يظل فى حالة ترقب وانتظار ناسياً أن "جودو " لن يصل لأنه فى الأصل غير موجود.. و"جودو" هنا هو السلام الذى ضاع، ومازلنا نملأ رؤوسنا بأوهام أنه عائد لا محالة!! وفى إطار مسألة "توزيع الأدوار" يكون للدور الأوروبى الذى يظهر كعادته فجأة وينتهى دون سابق إنذار نجد أن التصريحات المرنة تتردد -بلا توقف- على ألسنة كبار المسئولين الأوروبيين، ربما لتحويل الأنظار عن تصريحات الرئيس الأمريكى ووقع خطابيه فى الكنيست الإسرائيلى، ومؤتمر دافوس شرم الشيخ واللذين أحدثا ارتجاجاً فى العقل السياسى العربى الذى وجد نفسه "مكشوفا" حتى لا أقول "مفضوحاً" أمام الشعوب العربية.. لأن ما قاله بوش الابن فى الخطابين لم يخرج عما ألفناه واعتدناه منه وهو التأييد الأعمى لإسرائيل.. لكن العقل السياسى العربى "الرسمى" كان قد التقط الطعم وصدق أكاذيب بوش وترهاته طوال السنوات الثمانى الماضية، وحاول بدوره إقناع الشعوب العربية بذلك.. فجاء الخطابان فى الكنيست وشرم الشيخ ليكشفا المستور.
يبقى أن نذكر أن تحركات برنار كوشنير وزير خارجية فرنسا تندرج فى إطار التنسيق بين القوتين " أمريكا وأوروبا" ولذلك ليتنا لا نفرح كثيراً وأن نضع كل الأشياء والتحركات فى مكانها الصحيح انطلاقاً من فهمنا للأولويات التى تفرض نفسها فى حق العلاقات الدولية، ومنها أن أمن إسرائيل -كما قال جورج دبليو بوش- هو جزء متمم للأمن القومى الأمريكى.. وأن أمن إسرائيل -كما قال الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى- يحتل مكاناً متقدماً فى أولويات السياسة الخارجية الفرنسية، وصرنا نحن العرب الذين نتعامل فى السياسة الخارجية بمنطق رومانسى انطباعى مع أن ألف باء السياسة، هى أن لغة المصلحة هى الضابط الوحيد لإيقاع أية سياسة فى المنطقة والعالم.
باختصار نحن قوم لا نتعلم من تاريخنا القديم والحديث، فالرهان لا يجب أن يكون على هذه القوة أو تلك من القوى الخارجية، فلا أوروبا ولا أمريكا يمكن أن تفعل أى شىء من أجلنا، فقط إذا حقق الأمر لهما مصلحة بعينها سنجد الدعم الكامل.. وما عدا ذلك فلن يتحرك ساكن. فأوروبا ليست أفضل من أمريكا، ولئن كانت الأخيرة شيطاناً، فالأولى ليست بالقطع ملاكاً.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة