يسرى حسين

المرأة وزنزانة "البرقع" الأفغانى

الجمعة، 23 مايو 2008 12:31 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تميزت طموحات المراهنة على النهضة فى بعض البلاد العربية، بإعطاء دفعة لحقوق المرأة ضمن تيار عام يتحرر من رداء القمع والسلب والعدوان، والسماح باغتيال الحريات لكل أفراد المجتمع، مع دفع النساء للثمن الأكبر.
وعندما زرت أفغانستان وتفقدت أحوالها، أصابتنى حالة من الحزن الشديد، لأن المرأة هناك، شبه سجينة، مع أنها تسير فى الشوارع وتخرج إلى الأسواق. وسجنها يتمثل فى هذا "البرقع" الذى ترتديه ويشبه أسوار زنزانة كاملة، لها نافذة صغيرة محاطة بالقضبان تنظر المرأة من خلفها.
وكنت دائم النظر إلى حالة نساء أفغانستان بهذه الزنزانة المخيفة التى تصدم الوعى البشرى بصفاقة شديدة. وعندما زرت "متحف كابول" وجدت لقطات لمرأة تدرس فى الجامعة وضمن زملاء لها من غير هذا "البرقع" المخيف. وهذه الحالة قبل انزلاق هذا البلد إلى الخوف والرعب وزراعة الأفيون ووجود طبقة تُطلق على نفسها اسم "المجاهدين" كانت وراء التدمير البشع وضياع منجزات فى طريق الحضارة، بسبب الفساد والتمسك بظاهر الدين، وترك جوهره الذى ينص على الحرية.
حالة أفغانستان ليست الوحيدة فى المنطقة، فنفى وجود المرأة ظاهرة فى مجتمعات تتباهى بثرائها وطفرتها المالية، بينما تعيش حالة من الجهل بسبب مصادرة حريات المرأة وإدخالها "قفص الحريم" وإغلاقه عليها، وعدم السماح لها بممارسة الحياة العامة أو الظهور فيها باعتبارها هى وصوتها وشكلها "عورة ".
وعندما تحركت "مصر" فى بداية القرن الماضى كان من ضمن ثورتها التحررية إخراج المرأة من القفص. وتمثلت حملات الغضب على السجن خلف الحجاب بإلغائه ضمن مظاهرة قادتها "هدى شعراوى" ضمن غضب على احتلال مصر وعقلها وحريتها . وكان المحتل يقمع الجميع: (النساء والرجال)، ولا يمكن اعتبار الرجل متحرراً والمرأة بجانبه مقيدة بحديد التخلف.
وعندما تقرأ أوراق نهضة مصر، التى انتكست بدورها، ترى النساء فى الصحافة مثل أمينة السعيد وفاطمة اليوسف، مع أخريات على ساحة سلك المحاماة مثل مفيدة عبد الرحمن.
أما فى عالم الجامعة والتعليم فهناك د. سهير القلماوى بجانب بنت الشاطئ، وبعد ذلك برزت د. لطيفة الزيات ومئات بل الآلاف من نساء مصريات حملن شعلة التقدم، حتى جاء التيار الدينى ليفرض مقولات استفادت من تراجع التنمية وخطاب التنوير، مع زيادة رقعة الفساد والفقر، مما أرهق الحياة المصرية وأضاع منها مظاهر المدنية الحديثة التى عاشها جيلنا فى حقبة الستينيات بالذات وبعمقها فى تراث طويل تشير إليه كتابات وأبحاث وحركة د. درية شفيق الرائدة.
ولدى مصر بالذات سجلها الذى تفخر به فى مقام الحراك المدنى. وقد سجلت السينما والفنون حالة الرقى العامة لمظاهر المجتمع الحديث مع وجود نساء على ساحته. ودائماً أستشهد بفيلم "أنا حرة" المأخوذ عن رواية للكاتب إحسان عبد القدوس ومن إخراج صلاح أبو سيف وبطولة لبنى عبد العزيز، فى دور فريد فى التاريخ السينمائى. وكانت "لبنى" تجسد شخصية الفتاة "أمينة" المدفوعة بحب العلم والحريصة على حريتها والتى تحلم بالشهادة الجامعية ووظيفة ودور عام فى المجتمع.
أدت لبنى عبد العزيز، الدور بتألق فى اختيار مشروع الحرية أولاً ومواجهتها لمجتمع قديم، كان يرفض خروج المرأة للتعليم والعمل، لكن "مصر" عند كتابة هذه الرواية فى حقبة الخمسينيات، كانت عازمة على تحررها وإطلاق المجتمع كله نحو التصنيع والبناء وحماية الثروة الوطنية وفتح الطريق أمام الكل ليصوغ ملامح المستقبل والمشاركة فيه.
ومصر، بالذات عبر تاريخها الطويل، كانت المرأة موجودة دائماً فى ساحة الحياة العامة منذ "الفراعنة" ولا تختفى إلا فى عصور القهر والحرمان والتسلط والقمع، لكن مع حراك ثورة 1919 وانفتاح الأمل بقوة وإصرار، جاء فتح الجامعة واستقبالها للفتيات وفتح الطريق أمامهن للصعود والمشاركة فى حياة هذا الوطن.
ويمكن قياس تقدم مصر من خلال موضوع المرأة، فعندما يتحرر الوطن من قيوده تتألق حركة نسائية قوية، ونجد النساء فى كل المواقع، وعندما تظهر "دعاوى" التخلف يتحدث البعض عن أن مكانتهن الإقامة بالبيت وعدم الخروج منه.
وعلى الرغم من سيطرة بعض الخطابات المتزمتة، فإن المصريين أصروا على تعليم البنات مهما كان الثمن، ولم يجد الاتجاه "الطالبانى" استجابة مثلما حدث فى أفغانستان التى ساعد تخلفها وانهيار مجتمعها المدنى، الاستجابة فى ظل فقر وإرهاب أيضاً. أما "مصر" فإن رصيداً طويلاً من الثقافة جعل اختيار العلم فوق كل شئ، لأنه البوصلة التى تقود نحو التقدم والكرامة بكل أشكالها.
وعلى الرغم من انتشار قيم الثراء وجمع المال فى الآونة الأخيرة على حساب العلم والثقافة، فإن جموع المجتمع لا تزال تتمسك بتعليم أبنائها، خصوصاً البنات وتتحدى بذلك فتاوى الجهل والتحريض عليه من بعض الأصوات، التى تدعى بأن العلم يدفع إلى الانحراف وخروج المرأة للتعليم والعمل يترتب عليه الانحلال.
قاوم "المصريون" بقوة هذا الدجل على الرغم من قتامة الأوضاع وتردى الثقافة وارتفاع قيمة المال فوق كل شئ، حيث ظهرت أسماء فى المجتمع غير متعلمة ولا مثقفة وتملك المليارات مما جعلها تمثل قيمة ما، وهى غير ذلك على الإطلاق.
لقد استوعب "المصريون" منذ بداية مشروع نهضتهم المتعثر، طموح التعليم ودفع البنات للذهاب إلى المدارس ودخول الجماعات ونيل الدكتوراه والسعى لدخول البرلمان والمشاركة فى الحياة السياسية، على الرغم من كل العوائق والسلبيات. ويكفى تأمل دور إسراء عبد الفتاح فتاة "الفيس بوك" وما أحدثه من ضجة وتحولها إلى رمز، يؤكد أن أجيال شابة تختار الطريق الآخر على الرغم من صعوبته.
وتبدو "إسراء" هى الوجه المعاصر لأمينة فى رواية "أنا حرة" التى كتبها إحسان عبد القدوس، بهذا الإصرار على الحرية والفعل والتعبير على الرغم من عقابها بهذا العنف ومحاولة تخويفها هى وأخريات وآخرون، حتى لا يجرؤ الجميع على التفكير والتعبير ورفع راية الرأى المستقل . وتلك هى سنة الحياة، ويكفى تأمل كل شئ فى الكون لمعرفة أن تجديده يتم عبر تغيير الفصول، حتى تزدهر الورود وتنمو الأشجار وتخضر الحقول.
والشعوب التى تعاند التغيير، مهزومة ومحاصرة بالإحباط والألم وتعانى من الجمود الذى يقتل زهور الحياة اليانعة والمتفتحة على الألم والغد المنير.
والعالم تغير بإيقاع سريع، وهناك فى الولايات المتحدة امرأة هى هيلارى كلينتون تتنافس للوصول إلى مقعد الرئاسة. وقد حكمت مارجريت تاتشر بريطانيا لحقبة كاملة. وعلى مستوى بقاع الدنيا تتحرك النساء تطرح نساء فى مجتمعات حرة نداءات التحديث والتغيير والتعبير.
أما فى دول البؤس والشقاء، فإن حالة المرأة فيها تعبر عن تدهور، سواء بالسجن داخل زنزانة "البرقع" الأفغانى، أو من خلال تخويف نبت التغيير وسعيه لفتح طاقة تدخل منها أنوار الشمس التى تنعش الأمل فى الغد.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة