كلما توغلت فى الشوارع الخلفية للجامع الأزهر أقول لنفسي: ربما سيتخلى المثقفون عن تفاؤلهم بشأن أحوال النشر الأدبى بمجرد أن تطأ أقدامهم تلك المنطقة، وربما سيشعرون بحجم فجوة النشر الهائلة بين الكتب الأدبية والدينية فى مصر.
ففى الوقت الذى يؤكد فيه المتخصصون أن غلاء الأسعار وارتفاع معدلات التضخم وضعف مستوى الدخول أدى لانشغال المواطن فى لقمة عيشه بدلاً من الكتب، تمتلئ منطقة الأزهر بعشرات المكتبات التى تبيع وتطبع الكتب الدينية، وتطور من أدائها وطرق العرض والطباعة. العناوين الأكثر انتشارا هى التى تقدم وصفات "جاهزة" للجنة والنار وأحاديث لا حصر لها حول فقه الآخرة وهول عذاب القبر وتكفين الموتى، أو مراجع لتأصيل الفكر الوهابي..
جولة صغيرة تكتشف خلالها أن الهوس الدينى انتقل بقوة من ساحات المساجد السلفية إلى البرامج والقنوات، ومنها إلى أسواق الكتب عن جدارة. ثروت صالح، صاحب إحدى المكتبات، يقول إن كل شيخ يروج لكتابه الجديد فى الحلقات التليفزيونية، وفى بعض الأحيان يقوم بتخصيص حلقة كاملة لكتابه الجديد.. فى ذلك التوقيت نكون قد أودعنا نسخاً منه فى دار الكتب للحصول على رقم إيداع ويأخذ طريقه للنشر خلال بضعة أيام. مضيفاًَ أن أقل كتب الشيخ محمد حسان ـ مثلاً ـ تصدر منها طبعتان وثلاث، كل طبعة تتألف من خمسة آلاف نسخة.
تجولت فى الركن الخاص بالشيخ حسان، قلبت فى كتبه. من بينها "أحكام الجنائز ـ دراسة فقهية جديدة"، وهو كتاب غلافه باللون الأسود من الورق الكوشيه المقوى، أسفل العنوان تستقر "رسمة" لكهف يعلوه شجرة خريفية وخيوط عنكبوت. قلبت فى صفحاته لأعرف فحوى "الدراسة"، لا تخرج عناوينها عن: تلقين المحتضر، ما يجب على أهل الميت بعد موته، هل يجوز كشف وجه الميت؟ وغيرها من العناوين التى تجدها فى الكتب الصفراء والتى تباع بجنيه، أما دراسة الشيخ حسان الجديدة الصادرة عن دار سلسبيل فتباع بثلاثين جنيها.
فى مكتبة أخرى (معاذ بن جبل) توجد عشرات الرفوف التى تحمل كتباً يروج بعضها لمنتجات المكتبة، فهناك "العلاج بالحجامة"، وفى واجهة المكتبة توجد "عدة" التحجيم، على الرفوف أيضاً يوجد كتابا "كبائر النساء" و"فضائل الحجاب"، وفى الخارج تعرض المكتبة "لعدة الحجاب"، هناك أيضاً عناوين أخرى مثل "الوابل الصيب" و"الترغيب والترهيب" و"رياض الصالحين" وغيرها، وهى من كتب التراث التى تحتل مكانة كبيرة فى نفوس شباب وشيوخ السلفيين على السواء، حيث يقول أحد العاملين بالمكتبة إن مثل تلك الكتب قد تصدر منها كل دار أكثر من 20 طبعة، لتصل فى النهاية عدد الطبعات إلى 200 طبعة على أقل تقدير.
فى مكتبة خالد بن الوليد تختلف أشكال طباعة الكتب وعناوينها كثيراً، والتى يعيد عدد لا حصر له طرح مبادئ التنمية البشرية ولكن فى صيغ إسلامية، خاصة بعد طرح الداعية السعودى عائض القرنى كتابه "لا تحزن" والذى حقق أرقام مبيعات هائلة فى مختلف أرجاء العالم العربي، ومن بين الكتب الأكثر مبيعاً "استمتع بحياتك ـ فن التعامل مع الناس فى ظل السيرة النبوية ـ طبعة خاصة بمصر" للدكتور خالد أبو شادي، والذى لا يكاد يخلو ركن من اسمه وعناوينه: "بأى قلب تلقاه".. "جرعات الدواء".."البلسم الشافي".
فى مكتبة ابن حزم يقدم الشيخ محمد حسين يعقوب لكتاب "30 طريقة لخدمة الدين" بقلم أبو محمد المعتز بالله رضا بن أحمد صمدي.. فى الغالب لا يعرف لا يعرفه القارئ، لكن اسمه الطويل الذى يشى بأنه ينتمى لقبيلة حجازية، أو من عنوان الكتاب، أو من طريقة تصميمه، تكتشف أنها الطبعة الثانية عشرة، وأنه من أعلى الكتب مبيعاً. طارق على صاحب المكتبة الوحيدة التى تبيع كتباً صوفية، يقول إن هناك "زوبعة" تصطحب كل داعية جديد، يقترن بها حالة من الاحتفاء بصاحب الكتاب لعدة شهور، يكون صاحب دار النشر قد طبع أكثر من 9 طبعات من كتاب الداعية ثم يختفى الكتاب، وأحياناً صاحبه أيضاً، حسب "موضة" الدعوة واتجاهات الناس.
أحد العاملين بإحدى المكتبات يرتدى نظارة شمس، يحلق ذقنه تماماً، خمنت أنه لا علاقة له بموضوع "الالتزام" وخدمة الدين، فسألته عن حجم التجارة فى الكتب الدينية :"أقل صاحب مكتبة يركب عربية، ومعظمهم يعملون وكلاء أعمال لصالح الشيوخ، وعموماً الشغل فى هذا المجال كله مكسب، لا يتطلب سوى أن تعمل فيه عدة أشهر وتعرف نظام السوق حتى تستأجر دكاناً وتتفق مع أحد المطبعجية لطباعة كتب تحمل اسم مكتبتك".
اللافت أن عدداً كبيراً من المكتبات إما يدخل شريكاً مع إحدى المكتبات السعودية، وإما أن يوزع لها، وإما أن يكون فرعاً من دور النشر السعودية، الذين يقومون بتمويل جانب كبير من الدار المصرية فى مقابل مد المصريين بأحدث أسماء الشيوخ السعوديين والحصول على حقوق التأليف والنشر، وأحياناً التوزيع لصالحهم. ومن بينها دار جامع العلوم والحكم التى تطبع للشيخ أبو بكر الجزائري، إمام المسجد النبوي، ودار التقوى التى يملكها أحد المصريين الحاصلين على الجنسية المصرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة