من المؤكد واليقينى أن مفهوم الدولة عندما ترسخ كان الهدف منه هو تنظيم حركة المجتمع والحفاظ على تماسكه وأمنه من خلال مؤسسات بعينها موكل إليها اختصاصات محددة، تتكامل وتتقاطع جميعا من أجل مصلحة المجتمع وجميع أعضائه. وعندما وُجد القانون وجد لتنظيم حقوق وواجبات أعضاء المجتمع والاحتكام إلى النصوص القانونية التى تحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه، وبدون القانون وسيادته لا يمكن أن تكون هناك حماية للحقوق الفردية والجماعية.
وعندما أوصى الله لرسله بدياناته المتلاحقة كان الغرض منها بث التسامح والتعاطف والتعاضد بين الناس وبث روح التعاون وتنظيم حياتهم الروحية وإعلاء قيمهم الإنسانية، ولم تكن على الإطلاق بغرض بث روح الشقاء والآلام للناس أيا كان الاستناد لأية نصوص معينة، فالأصل فى الأديان جميعها هو خلق أنساق قيمية متسامحة تساهم فى تحسين شروط الحياة والتفاعل مع معطيات كل عصر بما يسمح لتخفيف آلام الناس وشقائهم ... اعتصرتنى ألما رسالة تسلمتها من أستاذ جامعى فى أرقى التخصصات العلمية يعاتبنى فيها، كيف لى ولأمثالى ممن يدافعون عن الدولة المدنية والحداثة وتفعيل قيم المواطنة وبث روح التسامح الدينى، أن نترك بعض الدعاة الذين يملأون شاشات الفضائيات السابعة والعاشرة والألف يبثون روح العداء بين الديانات ويصبون كراهيتهم للأديان المغايرة، وتقول رسالته ..
"السيد الفاضل "..............." نظرا لأننى أتابع مقالاتك وحواراتك التليفزيونية التى تدافع فيها عن الدولة المدنية وتماسك البنيان الاجتماعى من روح الفتنة، وأنك من أشد المدافعين عن دولة سيادة القانون وفصل الدين عن الدولة واحترام المعتقدات المتباينة فى المجتمع من أجل بث روح التسامى والتسامح بين كل المواطنين، أود أن أطرح عليك سؤالا هل شاهدت الحلقات الأخيرة من برنامج طريق الهداية والتى تبثه "قناة دريم" ويقدمه المذيع "علاء بسيونى" وفى استضافته الداعية الدكتور "محمد هداية"، فإذا كنت قد شاهدتها فلماذا لم تعلق فى مقالاتك عما بدر منه فى حق مصريين مثلك يتمتعون بجميع حقوق المواطنة ولكنهم يعتنقون ديانة أخرى وهى المسيحية، وإذا لم تشاهده فإليك بعض مما قاله الداعية الإسلامى: .."إن الإنجيل تم تحريفه بعد القرن السادس.
إن الكتاب المقدس "الإنجيل" كله محرف"، إن الكتاب المقدس قال إن حواء لم تخلق من تراب ولكن خلقت من ضلع آدم (وده كلام فارغ) ... فيا أستاذ صبرى هل مثل هذا الكلام يساعد على خلق روح التسامح بين الأديان وهل يساعد كما تقول فى مقالاتك على تماسك البنيان الاجتماعى، وكما قلت فى أحد مقالاتك إن من لا يريد السعى إلى تأمين انتصار الديمقراطية بتأمين البنيان الاجتماعى والحفاظ على المؤسسات المدنية فإنه يسعى إلى هدم القيمتين من الأساس وبذلك تهيمن قوى الفوضوية والعنصرية وتخلق البيئة الجاذبة لاستثمارات الإرهاب والنكوص والتخلف والعودة إلى دولة ما قبل المدنية ... أليس هذا كلامك وكلام كل القوى الداعية لاحترام الآخر، فكيف لا تتصدون لمثل هذه الوشايا التى تبثها أفواه الدعاة الإسلاميون ليحقروا ويحطوا من قيمة المختلفين دينيا ولكن يجمعهم وطن واحد ومصير واحد ... انتهت الرسالة" .... وللأستاذ الجامعى الفاضل أقول له، معك كل الحق فى الإحساسات التى انتابتك جراء هذه الأحاديث التى تنال من الآخر المختلف دينيا، ومعك كل الحق فى أن القوى المدنية مقصرة فى الدفاع عن حقوق المواطنة وإرساء معايير العقل والتسامح والانفتاح بعيدا عن الانغلاق والتشديد والتعصب .. ولكن اسمح لى بعدما عرضت رسالتك بشكل شبه كامل، أن أنظر لهذا الموضوع الذى ينال ويحط من قيمة الآخر.
إن هناك العديد من الدعاة تتسيدهم ثقافة الماضى وصاروا أقل تسامحا دينيا لأنهم محاصرون بالتشدد والتضحيات اللامتناهية والإحباط وعصور الانحطاط، والتى تفرز جماعات متشددة فكريا ودينيا، والتى معها تتنامى روح التعصب والعنف، سواء المعنوى أم المادى ... وإذا كان ما صرح به الداعية الدكتور محمد هداية صحيحا ـ كما أشارت رسالة الأستاذ الجامعى ـ فإن هذا يفجر الوطن بكامله بل ويفجر هؤلاء المتشددين الذين ينالون من المختلف دينيا، رغم أنه جزء من بنيان ونسيج وتاريخ هذا الوطن ... وأقول للسيد هداية ... إن المعايير الدولية لحقوق الإنسان توفر ضمانات فعلية لجماعات الأقليات دينية كانت أو ثقافية أو قومية أو عرقية أو لغوية، فلهذه الأقليات الحق ليس فقط فى أن تعترف الدولة بوجودها، بل وأيضاً فى أن تحمى هويتها الخاصة وأن تهيئ الظروف المناسبة لتعزيز تلك الهوية، وللأشخاص المنتمين إلى أقليات كامل الحقوق الديمقراطية بما فى ذلك حق المشاركة على قدم المساواة مع الآخرين ـ الأغلبية ـ فى الشئون العامة للبلد والمشاركة فى القرارات التى تمس جماعاتهم الخاصة أو المناطق التى يعيشون فيها ... وينبغى أن يكون اتباع نهج إيجابى تجاه حقوق الأقليات محكا لمدى ديمقراطية المجتمع.
فالديمقراطية يمكن فقط استخدامها إذا اتفق الناس على مواصلة العيش معا، وهذا يتطلب أن تكون الأغلبيات، حتى وإن كانت هناك نصوص دستورية تدعهما، أن تكون على استعداد لممارسة قدر من ضبط النفس، وألا تستخدم دوما قاعدة الأغلبية للسيطرة على كل شيء ولإعمال وجهة نظرها ... وختاما، يا أيها الدعاة، "فليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين نبنيه بالحرية والفكر"، هذا ما قاله رفاعة رافع الطهطاوى منذ ما يزيد عن 100 عام ... فهل ونحن فى الألفية الثالثة نجعل الوطن مكانا لشقاء جزء من نسيج هذا الشعب؟... هل نجعل الوطن يلفظ أبناءه نظرا لأنهم لا ينتمون إلى ديننا ونحط من قدرهم ومعتقداتهم؟ هل نجعل الوطن ملاذا لبث روح التفرقة والتعصب؟... لقد آن الأوان فى ظل مجتمع يبحث عن ديمقراطية حقيقية بتنمية اجتماعية واقتصادية حقيقية تكافح الفقر والجهل أن ننمى أفكارنا السياسية وأن تضبط الديمقراطية بالمعايير القانونية التى ستظل هى الحامية والمحصنة للديمقراطية وتماسك البنيان الاجتماعى...
آن الأوان أن نحتكم للقانون الذى ينظم كافة العلاقات سواء بين المجتمع وحكامه أو بين أعضاء المجتمع بعضهم البعض... آن الأوان أن نتخلى عن بث روح الفوضى والتشتيت والإهانات وخلخلة البنيان الاجتماعى... آن الأوان أن نعى الفروق بين حرية التعبير وحريات التجريح والإثارة وتشتيت المجتمع عن أهدافه الحقيقية فى تحقيق التنمية والتطور... آن الأوان أن تمارس القوى السياسية الشرعية دورها الفعال ولا مجال للانقضاض على منجزات مصر المدنية... آن الأوان أن تكف طائفة الإخوان ومروجوها عن اختراق ما حققته مصر من تنمية واستقلال... آن الأوان أن تمارس المؤسسات المدنية دورها فى إطار القانون، وأن يكف بعض الأفراد والطوائف على هتك عرض البنيان الاجتماعى... وألا يتعاملوا مع جزء أصيل من وطننا وشعبنا وتاريخنا باعتبارهم غرباء فى وطنهم ... آن الأوان أيها الدعاة أن تصمتوا وللأبد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة