لم يكن يتوقع أحد أن ينال فيلم "العمى" الذي افتتح به مهرجان "كان" السينمائي نشاطات دورته الجديدة، نوعاً من الإجماع والنجاح، حتى الذين هاجموا الفيلم، أبدوا إعجابا به. ففى اليوم الأول، لمح الذين هاجموا الفيلم جوانب خفية فى الفيلم، غير أنه مأخوذ من رواية لخوسيه ساراماجو، الكاتب البرتغالي الحائز جائزة نوبل للآداب. من هنا، وفي حسبة بسيطة، يمكن الافتراض أن الفيلم وقع ضحية لرغبة في الثأر من ساراماجو الذي لم يكف خلال الأعوام السابقة، ومنذ ان زار فلسطين، عن انتقاد السياسات الإسرائيلية، وكان ذلك الوجه الأول لفلسطين في "كان".
في اليوم الثاني كان الوجه التالي، والأكثر خطورة بالطبع: حرب إسرائيل على لبنان العام 1982، والمجازر التي ارتكبت ذلك الحين، تحت سمع قوات الغزو الإسرائيلية وبعدها، ضد اللاجئين الفلسطينيين وعدد من اللبنانيين في مخيمي صبرا وشاتيلا. أتى هذا، في فيلم "فالس مع بشير" لآري فومان، وهو فيلم رسوم متحركة نال إعجاباً وسجالاً ووضع، بدوره قضية فلسطين، وإلى جانبها القضية اللبنانية، في قلب الاهتمامات نفسها.
بعد ذلك، وبعد ظهر الجمعة، كان لفلسطين وجه ثالث، هو وجه الداخل الفلسطيني، خصوصاً داخل فلسطين 1948. وهذه المرة بدت الجغرافيا أشمل والتاريخ أكثر وطأة. ففي فيلم آن ماري جاسر الذي عرض أمام جمهور غفير ومصفق ومصغ باهتمام، وعنوانه "ملح هذا البحر"، بدت الأمور أكثر وضوحاً.
هنا نحن في قلب القضية. ولم يكن مقدمو الفيلم، من المشرف الفني على المهرجان إلى منتجيه الأجانب ومن بينهم النجم الأميركي داني غلوفر، فولكلوريين، حيث اعتلوا المسرح متشحين بالكوفيّة الفلسطينية الشهيرة. الكل كان يعرف هنا أموراً كثيرة عن فيلم آن ماري جاسر الأول، الروائي الطويل، لكن أحداً لم يكن قد رآه، وإن كان كثر قد سروا كونه يأتي من فلسطين إلى تظاهرة "نظرة ما".
"ملح هذا البحر" لم يخيب التوقعات والآمال التي بنيت عليه، وإن كان طوله المبالغ فيه قد أساء إلى سياقه بعض الشيء، كما أن حواراته أتت تقليدية تفسيرية في معظم الأحيان. ناهيك بأن ثمة لحظات في الفيلم بدا فيها وكأنه لا يعرف ماذا يقول، وبأن مخرجته تاهت بين أنواع عدة، لم توفق كثيراً في المضافرة بينها.
غير أن هذا كله لا يمنع من أن "ملح هذا البحر" فيلم مميز، يضاف إلى أفلام فلسطين اللافتة التي بدأت تعرف طريقها إلى العالم خلال العقدين الأخيرين. إذ حتى لو بدا الفيلم مرتبكاً بعض الشيء بين أن يكون فيلم طريق، وعملاً سياحياً، وعودة إلى الجذور، وفيلم مغامرات وثرثرة مثقفين وميلودراما غرامية، وقبل هذا كله عملاً سياسياً بامتياز، فإنه في المحصلة الأخيرة قدم صورة لفلسطين وقضيتها وأبنائها لم نعهدها كثيراً في الفن السابع. أما هنا نبقى مع التصفيق الكبير الذي تلا عرض الفيلم ولاسيما ذاك الذي حيا أداء بطلته سهير حماد التي برزت عنصراً أساسياً من عناصر الفيلم، وقدمت بدورها صورة أخرى لفلسطين.