فى 14 مايو 1948 وضعت إسرائيل حداً لتشتت الشعب اليهودى وضمتهم فى دولة جديدة، احتفل اليهود بميلادها مع زعيمهم ديفيد بن جوريون. وبعد هذا التاريخ بستين عاماً، أصبحت إسرائيل القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى فى منطقة الشرق الأوسط. فهى التى انتصرت فى أربعة حروب مع العرب، وتعاملت بحكمة مع الانقلابات الاجتماعية التى هددت شعبها ذا الأصول المختلفة. ولم يرسم الآباء المؤسسون حدود الدولة الجديدة، بل أوكلوا هذه المهمة، المحفوفة بالمخاطر، للأبناء الذين لا زالوا يحاولون إيجاد مخرج للأزمة المتفاقمة مع الفلسطينيين. والواقع أن قلب هذه الأزمة مرتبط بتقسيم الأراضى المقدسة الذى حددته منظمة الأمم المتحدة فى عام 1947. وبما أن الدولة الفلسطينية لم تولد بعد، يظل الاحتلال يلقى بظلاله على المجتمع الإسرائيلى، وآخر هذه الظلال ما أظهرته العملية الإسرائيلية الأخيرة لحدود استخدام القوة.
ومع بداية قرننا الحادى والعشرين، تريد إسرائيل النجاح فى تحد أخير، ألا وهو "التطبيع".. وهو ما يحاول الإسرائيليون فعله اليوم، فالحياة فى دولة ما ومع شعب ما، مثل الحياة فى دولة أخرى ومع شعب آخر.
يبدأ ملف مجلة لوبوان عن إسرائيل بنشأة الدولة الإسرائيلية ذاتها، فمنذ 1920 يكافح اليهود ـ وفق ما جاء الملف ـ من أجل إعلان دولتهم. وغداة هذا الإعلان، يوم 15 مايو 1948، قامت الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، التى شهدت هزيمة العرب. لكن السؤال الأهم فى هذا الملف هو: ما هى "أرض الميعاد" التى ظل اليهود يحلمون بها 2000 سنة؟ والتى نمت بمخيلة اليهود خلال هذه الفترة، ونمت بمخيلة الإسرائيليين لمدة ستين سنة.
والمؤكد أن أحلام الفريق الأول لا تتشابه مع الفريق الثانى.
إسرائيل الجديدة
مليئة بالتناقضات.. تزدهر فيها التكنولوجيا العالية، وتسجل نسبة الاستهلاك بها أعلى المعدلات على مستوى العالم. ورغم ذلك، يزداد الفقر وبدأت الطبقة الوسطى فى الاختفاء، وانخرط الأرثوذوكس المتشددون فى الجيش، الذى يمر بأزمة هوية صريحة.
أرقام قياسية
◄توجد فى إسرائيل 3361 شركة تعمل فى مجال التكنولوجيا المتقدمة، أى ما يعادل شركة لكل 2000 فرد.
◄ تصدر إسرائيل 46% من إنتاجها من التكنولوجيا المتقدمة.
◄وفقاً لمركز الأبحاث الإسرائيلى VIC، يصل حجم رؤوس أموال 462 شركةتكنولوجيا متقدمة فى إسرائيل إلى 1.759 مليار دولار فى 2007، بزيادة قدرها 8.5 % عن عام 2006. وهو ما يعد رقماً قياسياً خلال السنوات الست الأخيرة.
◄تحتل تكنولوجيا الاتصالات المركز الأول فى مجال التكنولوجيا المتقدمة (20%)، تليها علوم الحياة، ثم البرمجيات والإنترنت.
◄يستحوذ مجال البحث والتنمية على 4.5% من صافى الدخل القومى، مقابل 2.2% فى فرنسا.
◄تضم إسرائيل أعلى نسبة فى عدد المهندسين، بواقع 140 مهندساً لكل 100 ألف شخص، أى ما يعادل ضعفى الولايات المتحدة الأمريكية وأربعة أضعاف فرنسا.
التكنولوجيا المتقدمة فى إسرائيل
"سيكون لقاح مرض أنفلونزا الطيور إسرائيلى الصنع"، هذا ما يؤكده رون بابكوف، مؤسس ورئيس شركة بيوندفاكس، وهى شركة جديدة تعمل فى مجال التكنولوجيا الحيوية بالقرب من تل أبيب. ويشرح بابكوف هذا الأمر قائلاً "إن اللقاح الذى توصلت إسرائيل إلى اكتشافه سيسمح بمقاومة فيروس أنفلونزا الطيور، وسيمنح حماية عالية للإنسان، وذلك عن طريق تناول جرعة واحدة كل خمس سنوات، ويعتبر هذا الأمر ثورة حقيقية قى مجال التكنولوجيا الحيوية". ويعود الفضل فى اكتشاف هذا اللقاح إلى الدكتورة روث آرنون ـ وهى عالمة فى مجال طب المناعة ـ وفريق العمل المساعد لها، الذين نجحوا بعد خمسة عشر عاماً من البحث، فى التوصل إلى نوع من البروتينات الكامن على سطح هذا الفيروس، يدخل فى مكونات لقاح هذا المرض.
وتأكد رون بابكوف من أهمية هذا الاكتشاف، وأقنع المستثمرين بمستقبل هذا المنتج، وقامت شركة بيوندفاكس فى مرحلة أولى بتجميع رأس مال وصل إلى 4.5 مليون دولار، بالإضافة إلى دعم من الحكومة بقيمة مليون دولار، وهكذا أصبحت هذه الشركة واحدة من شركات التكنولوجيا المتقدمة المطروحة فى بورصة تل أبيب.
ويعكس هذا الأمر الذى تحقق بسرعة الصوت، ما يحدث داخل إسرائيل فى مجال التكنولوجيا العالية. ففى زمن قياسى، ما بين عام وثلاثة أعوام، يتم تكوين شركة جديدة حول فكرة محددة، تتحول بعدها إلى مؤسسة تحصل بسهولة على التمويلات اللازمة فى أسواق البورصة. فى فرنسا مثلاً، يتحقق مثل ذلك الأمر فى فترة تتراوح بين ستة إلى عشرة أعوام. وترجع سرعة الإنجاز الإسرائيلية إلى تلك العلاقة الوطيدة بين "البحث النظرى" و"البحث التطبيقى" فى إسرائيل، بحيث لا يقبع أحد المشروعات المهمة حبيس الأدراج.
المعوقات أمام التكنولوجيا الإسرائيلية
رغم هذا النجاح، توجد بعض الغيوم التى تقف عائقاً أمام التقدم التكنولوجى فى إسرائيل:
أولاً: هناك منافسون خطرون لإسرائيل يلوحون فى الأفق مثل: الصين والهند والبرازيل، الذين بدأوا فى الظهور بشدة فى أسواق التكنولوجيا المتقدمة، الأمر الذى فرض على إسرائيل السعى نحو الحفاظ على قدراتها التنافسية، من أجل المحافظة على معدل نموها السنوى على المستوى الحالى (ما بين 5 و6%).. وهنا ليس أمامها سوى حل واحد، وهو الذهاب إلى أبعد الحدود فى الابتكار، من خلال الاستثمار فى مجالات التكنولوجيا الأكثر تعقيداً مثل التكنولوجيا الحيوية، وتكنولوجيا الاتصالات.
ثانيا: يمر النظام التعليمى الإسرائيلى، الذى كان على أعلى مستوى من الكفاءة فى السبعينيات، بأزمة حقيقية اليوم. فهو يعانى تدهوراً ـ بشكل ملحوظ ـ نتيجة المشاكل التى يواجهها، والتى يعد أبرزها ضعف مرتبات المدرسين، وعمليات خصخصة المدارس، وهو ما يعنى إقصاء الطلبة، حتى الموهوبين منهم، الذين ينتمون لعائلات ذوى مستوى دخل ضعيف. هذا بالإضافة إلى المصاريف المرتفعة للجامعات ومدارس التعليم العالى، التى لا تقدم أى منح دراسية.
ثالثا: هروب العقول، وهو الأمر الذى بدأ يأخذ أبعاداً خطيرة فى إسرائيل.. وهنا يعلق بابكوف على هذا الخطر قائلاً "فى بداية القرن الحادى والعشرين، لا توجد حدود للعقول. فالجميع يتحركون، وهناك كذلك شبكات الإنترنت. وهذا ما نطلق عليه القرية العالمية".
ولكن.. رغم كل هذه المعوقات، تبدو الأمور حتى الآن على ما يرام. إذ إن وجود الشركات الجديدة الذى يبلغ عددها حالياً 800 شركة فى مجال التكنولوجيا الحيوية والمعدات الطبية، يضمن لإسرائيل تقدماً ملحوظاً فى هذا المجال، الأمر الذى يشعر الإسرائيليين بعدم القلق.
ولا تزال إسرائيل، رغم تصاعد الصراع الفلسطينى ـ الإسرائيلى، مصدر جذب لرؤوس الأموال الخارجية. ففى عام 2007، وصل حجم هذه الاستثمارات إلى مليار دولار، أى ضعفى حجم الاستثمارات الأجنبية فى فرنسا تقريباً. ويقول بابكوف فى هذا "لا يعتبر اليوم متخذو القرارات الاقتصادية المحليون والمستثمرون الأجانب أن الوضع الأمنى فى إسرائيل يشكل عائقاً لاستقرار الاقتصاد الإسرائيلى. فمثلاً خلال حرب لبنان الثانية وطوال صيف 2006، لم يتوقف الخبراء فى وزارة المالية من التحذير من إمكانية انهيار ميزانية الدولة والنمو الاقتصادى. وبعد مرور ستة أشهر، أكد الخبراء أنفسهم أن الحرب لم يكن لها ـ عملياً ـ أية تأثيرات سلبية على النمو الذى استمر مقترباً من معدله الطبيعى (5%)".
ومن ناحية أخرى، يعود الفضل فى الحفاظ على هذا المستوى من الابتكار فى مجال التكنولوجيا إلى عامل آخر، وهو "تنظيم" هذه الصناعات الجديدة. ويقول رئيس إحدى الشركات الناشطة فى مجال التكنولوجيا الحيوية "تمثل إسرائيل الحلقة الأولى فى السلسلة. فنحن داخل إسرائيل نقوم بدراسة الفكرة ونطورها، ثم نقوم بإثبات صحتها والتصديق عليها، وبعد ذلك التوصل إلى أولى نتائجها. ومن بعدها نقوم بتمرير ثمرة جهودنا إلى الشركات الكبرى الفرنسية أو الأمريكية، مثل "فايزر" أو "نوفاتريس" أو "سانوفى" فى مجال التكنولوجيا الحيوية، التى تقوم بدورها بتطوير وتصنيع المنتج. ويتفهم المستثمرون اليوم جيداً فكرة الحصول على تكنولوجيا "صنعت فى إسرائيل" وبناء مصانع إنتاجها فى أماكن خارج إسرائيل. وهو الأمر الذى يتم بنفس الطريقة فى مجالات الاتصالات والإنترنت".
الاقتصاد الإسرائيلى مزدهراً..
الاقتصاد الإسرائيلى بصحة جيدة للغاية: فقد انخفضت نسبة البطالة من 10 إلى 6.5% خلال ست سنوات، وتراجعت نسبة الديون العامة، وسجلت ميزانية الدولة للمرة الأولى فائضاً فى 2007. وبعد توقف الحكومة على تخصيص جزء كبير من ميزانيتها للقطاع الاجتماعى، أصبح محرك النمو هو الرهان على التكنولوجيا المتقدمة. ويفسر الخبير الاقتصادى جاك بندولاك هذا الأمر قائلاً "اتجهت أنظار إسرائيل إلى مجال التكنولوجيا المتقدمة فى 1967، عندما فرضت عليها فرنسا حصاراً على الأسلحة. ففى هذا الوقت اضطرت إسرائيل إلى الاعتماد على نفسها وصناعة أسلحتها بنفسها". وكانت هذه هى الخطوة الأولى لصناعة مدنية عالية الجودة ومتطورة للغاية فى قطاعات الطيران والليزر والبصريات. ثم فى 1993، وبعد توقيع اتفاقية أوسلو وما تلاها، ظهرت أسواق جديدة منافسة لإسرائيل (الهند والصين واليابان وتركيا). وفى المقابل، أخذ معدل الاستهلاك يزداد وظهرت حمى الشراء بين الأثرياء، ووصلت حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار سنوياً منذ 2005.
كان لهذه السياسة الاقتصادية الليبرالية ثمن إنسانى دفعته إسرائيل. فقد راهنت الحكومة على نمو اقتصادى من شأنه خلق فرص عمل والقضاء على الفقر، ولكن حدث العكس، حيث صاحب هذا النمو الكبير ارتفاع حاد فى نسبة الفقر (بلغت نحو 25% من الإسرائليين) واختفاء تدريجى للطبقة الوسطى.
النتيجة.. أن أسطورة إسرائيل فى تحقيق المساواة تنهار.
إحباط الفقراء الجدد"
نحن صائدو الفقراء، حيث نبحث عن الأشخاص الذين أصبحوا على شفا الانهيار ونساعدهم على أن يبدأوا من جديد فى حياتهم"، هذا ما يؤكده حاييم كنوفر، وهو مواطن إسرائيلى من أصل فرنسى، يعمل فى إحدى المناطق الصناعية. ويمتلك هذا اليهودى الأرثوذوكسى "سوبر ماركت" من نوع جديد "Tikva Market"، ويهدف هذا السوبر ماركت إلى القيام بمهمتين أساسيتين: أولاً، نقل الفقراء من مسمى "المحتاجين" إلى مسمى "الزبائن" لترد لهم كرامتهم. وفى هذا الأمر يقول كنوفر "نطلق على زبائننا VIP. وهم يقومون بدفع 10% فقط من ثمن الأشياء التى يشترونها فى عربات التبضع. ونعتمد فى هذا المشروع على الأموال التى نحصل عليها من هبات القادرين مادياً".
والمهمة الثانية، هى تنظيم جلسات تدريب وتعليم لهؤلاء الفقراء تساعدهم على الحصول على عمل. ويعترف كنوفر: "أن المهمة شاقة للغاية، حيث يعيش 25% من السكان تحت خط الفقر (2028 شيكلاً شهرياً، أى ما يعادل 380 يورو)".
الفقراء المعنيون فى هذا التقرير ليسوا العجائز أو الأشخاص الذين يعيشون فى الشوارع. هؤلاء الفقراء (45% من فقراء إسرائيل) ينقسمون إلى شريحتين من المجتمع الإسرائيلى، الأولى الأشخاص الذين يعيشون على أعمال بسيطة بأجور زهيدة لا تساعدهم على مواجهة مصاعب الحياة. أما الشريحة الثانية، فتتمثل فى الأسر كبيرة العدد.. فقد خفضت الدولة ـ فى عام 2003 ـ الميزانية الخاصة بالمساعدات المادية للأسر الكبيرة. وبالتالى أصبحت الأسرة المكونة من عشرة أفراد تحصل على 1800 شيكلاً شهرياً فقط بدلاً من 4000 (أى 340 يورو بدلاً من 755). وفى ظل هذه الظروف، فإن أى أسرة كبيرة العدد يمتهن أفرادها مهنة متواضعة، تصبح حياتهم مستحيلة، وهذا هو عادة وضع الإسرائيليين من أصل فلسطينى وكذلك الأرثوذوكس.
ويستفيد اليوم 2700 شخصاً من Tikva Market. أما قائمة الانتظار فمازالت تضم 1200 عائلة.
وهكذا فى مقابل حكومة مقصرة، لعب التضامن الاجتماعى دوراً كبيراً.
ثورة الأرثوذكس المتشددون الصامتة
إن المرأة داخل مجتمع الأرثوذكس المتشدد تقوم بمهمتين أساسيتين هما الإنجاب، ومساعدة زوجها على أن يهب حياته لدراسة التوراة دون أن يعمل. وهكذا لجأت ثلاث إسرائيليات إلى العمل فى شركات صغيرة ومتوسطة للتكنولوجيا المتقدمة، حتى يتمكن أزواجهن من التفرغ التام لدراسة التوراة.
من الأحد صباحاً وحتى الجمعة بعد الظهر، تجلس إحداهن أمام شاشة الكمبيوتر لمتابعة عدد من برامج الكمبيوتر، أما الأخرى فتقوم بحفظ المعلومات رقمياً، دون الإخلال بالتعاليم الأرثوذوكسية اليهودية الصارمة، حيث يتم فصل الرجال عن السيدات فى المكاتب. أما فى المطابخ، فيتم إعداد الطعام وفقا للمبادىء اليهودية، ويتم كذلك إعداد غرفة مجهزة للسيدات ليرضعن أبناءهن.
وتجرى أحداث هذه "الثورة الصامتة"، والتى لا يمكن اعتبارها تمرداً على الإطلاق، فى الضفة الغربية، وقام بهذه المبادرة رئيس "مستعمرة الأرثوذكس المتشددين"، جوترمان، بهدف إنقاذ 35 ألف أرثوذكسى من الفقر الشديد. ويعود سبب هذا الفقر إلى عاملين رئيسيين أولهما، نوعية حياة هؤلاء الأشخاص، حيث لا تمتلك الزوجات مالاً كثيراً لأن أزواجهن يدرسون التوراة، وهن لا يستطعن العمل فى مكان علمانى. ولذلك، يضطررن للجوء إلى أعمال بسيطة فى قطاع التعليم. أما العامل الثانى، فيرجع إلى عام 2003، حين طبق بنيامين نتانياهو، الذى كان وقتها وزير المالية، سلسة إصلاحات اقتصادية، فقام بتخفيض الميزانية فى القطاع الاجتماعى، وخاصة الدعم الذى يمنح للأسر كبيرة العدد.
ويقول جوترمان "كانت هذه المنطقة تعيش فى الظلام، ولم يكن بها أى مراكز تجارية، وكان السكان يعيشون حياة بائسة". وبمساعدة وزارة الصناعة والتجارة، وبفضل علاقاته مع رؤساء المؤسسات الأرثوذوكسية، نجح جوتران فى إنشاء فرع لمؤسسة Citybook التى تعمل فى مجال المعلوماتية، والتى قامت بتدريب الأيدى العاملة النسائية الأرثوذوكسية، وسرعان ما قامت شركات أخرى بتقليد هذا المثال الناجح، وأقامت فروعاً لها فى الأحياء الأرثوذوكسية المتشددة.
فهل تستطيع إذن النساء إنقاذ الطائفة الأرثوذوكسية المتشددة؟ الإجابة حتى الآن غير واضحة. ووفقاً للتقرير الأخير حول الفقر، تصل نسبة المتدينين المتشددين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 21.3% من سكان إسرائيل.
الرهان الديموجرافى
يمثل عدد السكان رهاناً سياسياً أساسياً لإسرائيل. وفى هذا الصدد أعلن مكتب الإحصاء المركزى الفلسطينى فى رام الله نتائج الإحصاء الأخير لعدد السكان. فخلال عشر سنوات، ارتفع عدد السكان بنسبة 30% ليصل إلى 3.76 مليون نسمة (فى غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية). ومن جانبها، تضم إسرائيل 7.24 مليون مواطن، منهم 1.45 مليون إسرائيلى من أصل فلسطينى. ويعلق العالم الديموجرافى الإسرائيلى الشهير سرجيو برجولا، الذى يؤكد على صحة هذه الإحصاءات، قائلاً "مازال الإسرائيليون يمثلون حالياً الغالبية العظمى، إذا قمنا بإضافة عدد سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية. ولكن بحلول عام 2020، فى حال عدم قيام الدولة الفلسطينية، فسيصبح اليهود أقلية ولن يمثلوا وقتها سوى 40 إلى 46% من عدد السكان".
من جهة أخرى، يعترض بعض الخبراء الإسرائيليين مؤكدين أن "هذه الأرقام الفلسطينية الأخيرة غير صحيحة. وبالتالى ليس هناك إذاً ضرورة لإخلاء المستعمرات اليهودية فى الضفة الغربية والقدس الشرقية". ويجيب عليهم برجولا "إن التحليلات الديموجرافية ليست مجرد جرد لعدد السكان. لكنها أيضاً تقوم على أسس ثقافية وديمقراطية داخل المجتمع الإسرائيلى".
جيش الدفاع الإسرائيلى... أسطورة غير مكتملة
يعد جيش الدفاع فى المجتمع الإسرائيلى الصخرة التى يستند عليها كل من ينشد الراحة. إن تاريخ إسرائيل يضم العديد من الانتصارات ضد جيرانها العرب، وهذه الانتصارات بلورت أسطورة الجيش الحديث الذى لا يقهر. إن حرب التحرير فى 1948، والملحمة المصرية فى 1956، وحرب 1967، وكذلك حرب كيبور فى 1973 قدموا جميعاً دليلاً حقيقياً على قدرات هذا الجيش، الذى كان يضم قادة عسكريين تولوا فيما بعد قيادة إسرائيل، مثل آريل شارون، وإسحق رابين أو إيهود باراك.
إلا أن ساعات المجد تلك، أعقبتها حوادث أكثر سواداً. فقد سجلت عملية "السلام فى الجليل" وغزو لبنان فى 1982، تحت قيادة آريل شارون، ومذابح صبرا وشاتيلا، نقاطاً سوداء فى تاريخ هذا الجيش.
وقد كانت آخر إهانة لإسرائيل ولازالت تعانى منها حتى الآن، هى حرب لبنان ضد حزب الله فى صيف 2006. فقد اتهم التقرير الأخير للجنة التحقيق الإسرائيلى الجيش "بالتقصير الحاد فى الإعدادات واتخاذ القرارات". ومما لا شك فيه أن الجيش قد بدأ فى تصحيح أخطائه الصارخة، ولكن المجتمع الإسرائيلى لا يزال تحاصره الشكوك تجاه موقف الجيش. ويقول أحد ضباط الجيش الإسرائيلى القدامى "لم يعد جيشنا يضم الإسرائيليين فقط. من ناحية أخرى، انحصر دوره الاجتماعى فى مساعدة المهاجرين الروس والأثيوبيين على الانخراط فى المجتمع الإسرائيلى. أما الشباب الإسرائيلى المتميز، فهو يقوم بأداء الخدمة العسكرية بكفاءة لمدة ثلاث سنوات، وما يلبث أن يتركه سريعاً للعمل فى الشركات التى تعمل فى مجال التكنولوجيا المتقدمة".
من ناحية أخرى، يؤكد أحد المؤرخين أنه "لم يعد ممكناً القول إن يجمع الجيش الإسرائيليين معاً. إن العامل المشترك الذى أصبح يجمع أفراد الجيش اليوم، رغم التناقضات الواضحة، هو فقط كونهم يهوداً".
أما الظاهرة التى أصبحت واضحة، فهى إقبال الدوائر الدينية على الانضمام إلى الجيش الإسرائيلى، بعد تحول الأوساط العلمانية عنه، وعدم رغبتهم فى الاستمرار فى العمل الحربى بعد مرور فترة التجنيد القانونية. وهكذا أصبحت الدوائر الدينية تحتل النصيب الأكبر فى الجيش، وتشغل المناصب الوحدات العسكرية المهمة، مثل الطيران وحراسة الحدود والقوات الخاصة.
خصخصة المستوطنات (الكيبوتز)
فى 26 يناير 2006 وبعد عامين من المحاولات، تم بأغلبية الأصوات تقرير خصخصة مستوطنة ميرهافيا Merhavia (الكيبوتز هى مستوطنة زراعية تعاونية إسرائيلية يديرها ويملكها أعضاؤها). لقد قام مجموعة من الشباب القادمين من بولندا وروسيا بإنشاء هذه المستوطنة فى 1929. وها هى 74 عاماً على أيديولوجية المساواة المثالية، والتى أصبح مصيرها طى النسيان. فوداعاً للطابع الديمقراطى لتجمعات المواطنين مساء كل سبت، حيث كانت تؤخذ القرارات برفع الأيدى. ووداعاً للوجبات المجانية فى صالة الطعام الجماعية. ووداعاً كذلك لليالى الاحتفالات بالأعياد التى كانت تقام فى هذه المستوطنة، حيث كان الجميع على قدم واحدة من المساواة.
وهذه هى مشاعر بعض الإسرائيليين الذين اعتادوا منذ أكثر من خمسين عاماً على التردد على المستوطنة، إذ يقول أحدهم ويبلغ من العمر 85 عاماً "أنا لست نادماً على ما فعلناه. لقد كان ذلك شيئاً عظيماً. لقد قمنا ببناء دولة". وتؤكد سيدة إسرائيلية قائلة: "نحن نفتقد اليوم هذا الطابع الجماعى الذى اختفى عملياً من حياتنا، والاحتفالات الثقافية التى كانت تجمعنا".
وإذا كان هذا موقف بعض الإسرائيليين من خصخصة المستوطنات، فالبعض الآخر يرى العكس تماماً. وفى هذا الأمر تقول سيدة إسرائيلية كانت تتردد على المستوطنة لأكثر من ثلاثين عاماً "إن الحياة أصبحت أجمل بعد الخصخصة. وداعاً للمستوطنة التى كانت تقرر كل شىء وتتحكم فى أشياء كثيرة. إذا أردنا أن نشترى منزلاً جديداً لأن عدد أفراد الأسرة قد زاد، أو إذا حصلنا على مال من الخارج، كان علينا دائماً أن نبلغ عن تلك الأمور. أما اليوم، فقد انتهى كل ذلك، وأصبحنا ندير حياتنا وميزانيتنا كما نريد. إنه لأمر رائع. لقد لعبت المستوطنات دوراً لم يعد له وجود الآن. لقد تغيرت طبيعتها وأصبحنا اليوم قرية مثل كل القرى الأخرى".
وعلى الرغم من اختلاف الآراء بين مؤيد ومعارض لعملية خصخصة المستوطنات، هناك فئة ثالثة لا يعنى لها الأمر شيئاً سوى الواقع المرير الذى أصبحت تعيشه. هذه الفئة هم الأشخاص المسنون الذين أصبحوا يحصلون على معاش ضئيل من التأمينات الاجتماعية لا يتعدى 800 يورو شهرياً. وبالتالى إذا مرض أحدهم أو واجه أية كارثة حقيقية، سيضطر إذن إلى اللجوء إلى أى جهة مالية واجتماعية، حيث يسود مبدأ عدم المساواة الذى تعيشه 150 قرية أخرى خضعت خلال السنوات العشر الأخيرة إلى الخصخصة لأسباب تعود غالباً لإفلاس اقتصادى، فى حين أن المستوطنات الأكثر ثراءً والتى تستطيع تقديم مستوى معيشة جيد لسكانها، هى التى تصمد.
حوار مع الكاتب والأديب الإسرائيلى دافيد جروسمان
دافيد جروسمان فقد ابنه "يورى" البالغ من العمر 20 عاماً، فى آخر يوم من حرب لبنان 2006. وفى روايته الجديدة التى أوشك على الانتهاء منها، يتشابك الحادث الأليم لفقدان ابنه مع خيوط الواقع الذى يتحسر فيه الكاتب على اختيار بلده لأكثر الطرق وحشية، حتى فى محاولة البحث عن السلام.
قام جروسمان بتأليف كتاب "المنفيون فى أرض الميعاد"، الذى أعطى فيه الكلمة للعرب الإسرائيليين الذين يعانون من إحساس التمزق بن هويتين. وكتب كذلك العديد من المقالات التى ينادى فيها بالسلام. كما شارك فى المفاوضات السرية، وفى صياغة اتفاقية جنيف مع ياسر عبد ربه و"مهندس" اتفاقية أوسلو، يوسى بلين. وعلى الرغم من ذلك، يعتقد بروسمان أن "الأدب هو الشىء الوحيد القادر على اختراق قلب الأشياء".
وعن الوضع الحالى بين إسرائيل والفلسطينيين، يقول جروسمان "إن المرحلة التى نمر بها حالياً هى من أحلك الفترات فى تاريخنا. ولا أدرى إلى أين يقودنا كل هذا؟ فعند كل مفترق طرق، نختار دائماً الطريق الأكثر وحشية، حتى عندما نقرر اللجوء للسلام. هل رأيتم كيف قرر شارون الانسحاب من المستعمرات فى غزة؟ إن الوحشية تقود إلى العنف، والحرب تؤدى دوماً إلى الحرب. فلنحاول أن نثبت للعالم أننا نستطيع تطبيق خيار السلام. وأستطيع أن أؤكد لكم أنه كان هناك شعوراًً بالارتياح لدى الإسرائيليين بعد الانسحاب من غزة، الأمر الذى كان سيقودنا إلى مفاوضات جديدة. نحن نعلم أن الفلسطينيين يعانون من التعصب الدينى والبؤس والحرمان. وكان علينا إذا نساعد الجانب المعتدل منهم".
يضيف جروسمان مؤكداً أنه لن تكون هناك دولتان فلسطينيتان: "هناك حرب داخلية بين القادة. إذا انتصر الجانب المتشدد، سيقوم الرأى العام فى الدول العربية بقلب منطق الدول. وفى اللحظة التى أتحدث فيها، هناك نافذة أمل فى التعاون مع بعض الدول العربية، ولكن سوريا ليست منها، وطالما أن سوريا ليست على مائدة المفاوضات، لن يكون هناك إمكانية لتحقيق السلام. أما على الجانب الأمريكى، فلن يكون هناك أى أمل فى التغيير، طالما أن بوش لا يزال رئيساً. إن سياستهم فى الشرق الأوسط مخيفة: عندما حاولوا حرمان المنطقة من قوة العراق، أعطوا إيران الفرصة للظهور بقوة، وهو الأمر الذى يشكون منه الآن".
وعن الدور الذى يمكن أن تلعبه أوروبا فى عملية السلام، يبعث جروسمان برسالة إلى الدول الأوروبية لمساعدتهم مثل ألمانيا وفرنسا "اللتين يثق فيهما الفلسطينيون".
ويؤكد جروسمان فى نهاية حديثه على أنه "من المؤكد أن عملية السلام ستتم. لقد يأس الفلسطينيون، ولكنهم على يقين من ضرورة التفاوض على السلام. نحن نضع أملنا فى يأسنا من الصراع الذى أصبح، ابتداء من اليوم، يجمع الأصدقاء والأعداء".
إسرائيل التى لا نعرفها.. كيف هى من الداخل؟
الحلم الصهيونى الذى تحول إلى واقع يوم 14 مايو 1948
الأربعاء، 14 مايو 2008 01:43 م