"ماذا يمكن أن تحس عندما يقفز النوم فجأة على جسدك وترتجف أصابع قدميك، وتدور خصيلات شعر رأسك، ولا تجد بداً من أن تخفى رأسك بين وسادتين باردتين علك تستريح من الأوهام الضائعة؟ وماذا يمكن أن يحدث لو بدأنا نضفى مغزى آخر على المألوف من الأشياء بإضفاء مظهر غامض على كل ما هو عادى؟ وماذا لو بدأنا نحلم داخل ذواتنا ونحن يقظون؟".
تذكرت هذا المقطع من إحدى الروايات العالمية عندما لفت انتباهى ـ كغيرى من القوى المدنية الساعية لولوج مصر لعصر الحداثة والمدنية وإرساء معايير العقل ـ حدثان مختلفان لشخصين مرموقين هما هدى جمال عبد الناصر وجلال أحمد أمين ... الأولى هى الأستاذة الدكتورة هدى عبد الناصر أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة وابنة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر – رحمه الله – والثانى الدكتور جلال أمين أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية وابن المفكر الكبير أحمد أمين – رحمه الله – وكلاهما تعلم فى أرقى الجامعات وحصلا على أرقى الشهادات وتصدا لأعقد القضايا، الأولى مسئولة عن ملفات ثورة يوليو بالأهرام والثانى يتصدى بكتاباته المتعددة لكشف عورات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وله إسهامات عديدة سواء على الصعيد الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسى ... أولاً: الدكتورة هدى جمال عبد الناصر صرحت فى حوار لها نشر عام 2005م بأن الرئيس الراحل محمد أنور السادات تم تجنيده من قبل المخابرات الأمريكية واتهمته بقتل الزعيم جمال عبد الناصر، مما أدى إلى أن كريمة الرئيس الراحل أنور السادات السيدة رقية تصدت للدفاع عن سمعة أبيها التى أهدرتها الدكتورة هدى عبد الناصر ـ دون وجه حق – ورفعت قضيتها المشهورة بسب وقذف الرئيس السادات وهى أقل تهمة مما أشاعته الدكتورة هدى، ورغم حكم المحكمة الأخير بغرامة الدكتورة هدى إلا أن القضية ليست سباً وقذفاً وإنما اتهاماً صارخاً بالعمالة والخيانة بل والإجرام ... وإذا كانت السيدة رقية حكم لها بمبلغ 100 ألف جنيه تعويض، أتصور أن القضية بالنسبة لها لا تعنى الحصول على أموال، وأتصور أيضاً أنها قد تكون ليست بحاجة إليها، كما أتصور كذلك أن هذا المبلغ أو غيره قد لا يضر الأستاذة الدكتورة هدى عبد الناصر .. ولكن القضية الأهم، ما هو الحكم الذى يرد الاعتبار لرئيس مصرى وطنى تتهمه ابنة الرئيس الأسبق بالتآمر على أبيها بل والشروع فى قتله، بل والعمالة لدولة أجنبية منذ ما يقرب من أربع سنوات أثناء حياة أبيها، الذى قام هو نفسه بتعيينه نائباً له مما آل إليه حكم البلاد بحكم ما يسمى بالتوريث الجمهورى ...
ثانيا: ولعل حيثيات حكم المحكمة الذى أكدت فيه أن حرية الرأى ينبغى ألا تتجاوز القصد منها بالمساس بالآخرين أو التشهير بهم أو الحط من كرامتهم، وأن أقوالها واتهاماتها – يقصد الدكتورة هدى – كانت مرسلة لا تصنع دليلاً، يدخلنا إلى الحدث الآخر والشخصية المرموقة الأخرى وهو الدكتور جلال أمين، الذى تنشر له الزميلة "المصرى اليوم" حلقات "قصة الفساد فى مصر" ويفاجئنا أيضاً الدكتور جلال أمين بالتالى .. "كانت شخصية السادات بذاتها ملائمة تماماً للمناخ الجديد الذى حل بعد الهزيمة، ولكن السادات نفسه كان عاجزاً عن ارتكاب أعمال فاحشة من أعمال الفساد طالما كان المناخ غير موات لذلك، كان السادات من النوع الذى يرتعد خوفاً من غضب الرئيس عبد الناصر فلم يجرؤ على ارتكاب أعمال فساد كبيرة إلا بعد أن أصاب الضعف النظام كله فى 1967م" ... ويضيف الدكتور جلال أمين: "ولكن أياً كان حجم المخالفات التى ارتكبها السادات أثناء حياة عبد الناصر، فقد كانت شخصيته من النوع الذى يسمح له بارتكاب أكثر منها بكثير فى ظل مناخ مختلف"، والملاحظ أن الدكتور جلال أمين يتعامل مع قضية الفساد فى مصر من منطلقات شخصانية، فعندما قال: "كان جمال عبد الناصر ديكتاتوراً ولكن لم يكن فاسداً"، اعتبر أن الفساد لم يكن منتشراً فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى لأن الرئيس عبد الناصر لم يكن فاسداً، رغم أنه كان ديكتاتوراً .. رغم أنه لا فرق بين الاثنين على الإطلاق، وعندما تصدى للفساد فى عقد السبعينيات انطلق – كما ذكرنا – من شخصية السادات نفسه التى اعتبرها فاسدة بطبعها، وتجاهل ـ إما عمداً أو اختياراً ـ أن الفساد تحكمه شبكة مؤسسات وعلاقات معقدة، ويزيد جلال أمين بقوله: "حكى لى أحد الأصدقاء فى 1959م ـ وكان يعمل فى سفارة مصر فى روما ـ أنه خرج لمرافقة السادات فى التفرج على روما ومحلاتها فأعجبت السادات جاكتة خضراء فاقعة اللون وكان يريد شراءها ثم أحجم قائلاً جملة لا أستطيع تكرارها هنا، وتتضمن ما يمكن أن يقوله له عبد الناصر لو رآه مرتدياً هذه الجاكتة" .. أعتقد أنه قد بدا للجميع أن هناك محاولات بدوافع إرثية أو أيديولوجية للنيل والحط من كرامة زعيم مصرى له ما له وعليه ما عليه، ولكن أن يتم التعامل معه بهذه الأساليب السردية دون سند علمى منضبط، فتتهمه ابنة الزعيم عبد الناصر بأنه كان عميلاً للمخابرات الأمريكية، متناسية أن الزعيم نفسه عينه نائباً له وهو يدرك تماماً أنه سيكون الرئيس اللاحق، فكيف يكون؟، أيكون تآمراً من الزعيم عبد الناصر على الشعب المصرى لكى يحكمه عميل وخائن؟! وبالمثل فرغم دفاع الدكتور جلال أمين عن ديكتاتورية عبد الناصر، نراه أيضاً يمارس الأساليب السردية نفسها دون سند، ففى غمرة دفاعه عن الدولة الناصرية داس بقدميه على منجزات رئيس وطنى حرر كامل التراب المصرى.
إن ما فعله الرئيس السادات خلال عشر سنوات، هى فترة حكمه، من استشراف التحولات الدولية واحتياجات الشأن الداخلى كفيلة برد اعتباره، فكانت ثورة تصحيح فى مايو 1971م بالتخلص من بقايا الأجهزة الاستبدادية ودولة الحزب الواحدة، ثم تلا ذلك طرد خبراء الحليف الذى كان، وإن ظلت قواته ستقلل من قيمة ما فعلته المؤسسة العسكرية الباسلة فى أكتوبر 1973 واستعادت الأرض التى تسبب نظام يوليو السياسى الاستبدادى فى التفريط فيها، وفى عام 1975م استشرف التحولات الدراماتيكية فى أوروبا الشرقية قبل حدوثها بما يزيد على عشرة أعوام، وفى عام 1978م، استجاب للتحديات الداخلية بعودة الحياة الحزبية مرة أخرى بعدما ألغتها الدولة الناصرية (القوية)، كما يقول جلال أمين، وتم فتح الأسواق المصرية لمزيد من الاستثمارات الأجنبية التى أثبتت تجارب العالم فى العشرين سنة الأخيرة أهميتها لكل البلدان، حيث إنها تدل على الاستقرار السياسى غير المخاطر وقدرة البلاد الاقتصادية على جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتجاوز الاقتصادات الحمائية.
وأخيراً فلتكن كلمة عبد الرحمن الكواكبى خير ختام حينما قال: "إن الترقى يعنى الحركة الحيوية أى حركة الشخوص والمجتمعات، ويقابله بالضرورة الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال، وإذا رأينا فى أمة – أى أمة – آثار حركة الترقى هى الغالبة على أفرادها حكمنا لها بالحياة، ومتى رأينا عكس ذلك قضينا عليها بالموت" ...
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة