الساعة السادسة صباحاً فى ميدان السد العالى بحى الدقى، عساكر الحراسات يستعدون لمغادرة أماكن الخدمة الليلية، الشارع خالٍ من المارة، الضجيج والصخب لم يستيقظ بعد.
ثوانٍ قليلة انتظرتها أمام المبنى الصغيرالذى تعلوه لافتة مكتوب عليها "مستشفى الدكتور مجدى"، سألت أحد العاملين عن بنك الدم، قال المدخل الثانى..أشجار كثيفة تغطى المكان تذكرك بماضى المبنى عندما كان فيلا، نزلت بضعة سلالم حتى وصلت إلى الممر المؤدى إلى بنك الدم، حقيقة لا أدرى لماذا كنت أشعر بالانقباض، رغم أن إجابتى كانت جاهزة لو تعرضت لأى سؤال مباغت عن سبب وجودى فى المكان.
المفاجأة لم تأت فى سؤال، وإنما وجدتها فى "البراجولا" - وهى عبارة عن استراحة خشبية -التى كان يجلس بداخلها مجموعة من الشباب أعمارهم دون الثلاثين، لكن ملامح الإعياء والإنهاك البادية على وجوههم توحى بأنهم على وشك مغادرة عالم الأحياء، بينما يجلس إلى جوارهم رجل موفور الصحة قصير القامة بادرنى بالسؤال قائلاً: خير يا أستاذ؟
أجبته: بنك الدم.
أين عمر؟
أشار برأسه إلى مدخل صغير مغطى بحبال خضراء غليظة قائلاً: "عمر بالداخل"، المكان يبدو أنه كان "جراجاً أو بدروماً " ولكن أضيفت إليه بعض التعديلات. لم أجد السيد عمر، تعمدت أن يكون صوتى منخفضاً وأنا أنادى عليه، حتى أتمكن من العودة إلى البراجولا مرة أخرى بحجة أننى فى انتظار عمر.
أفسح لى الرجل القصير مكاناً إلى جواره تبادلنا سيجارتين قال ـ بلهجة العارفين ببواطن الأمور ـ "أنت بتدورعلى فصيلة معينة؟" أجبته بأنى أبحث عن" a+ " وبلهجة السماسرة قال: إنها غير متوفرة لكن أنا أقدر أوفرها لك وأنت كلك نظر.
سألته: كيف؟، قال لى: أنت الظاهر عليك غريب مش من "القاهرة" وعندك مريض ومحتاج نقل دم.
أجبته: نعم.
قال: وربنا كرمك بيا ولازم تكرمنى أنا كمان ولا إيه.
قبل أن أرد عليه قال: محتاج قد إيه.
قلت له: أنت تقدر توفرلى قد إيه؟، قال: يا راجل يا طيب أنت لو محتاج "برميل" إحنا بعون الله نقدر نجيبه.
قلت له: أنا محتاج كيسين فقط.
قال: محتاجهم الساعة كام؟.
سألته عن السعر.
قال: كلها حاجات بسيطة ولن نختلف عليها و تصدق بالله أنا لما شوفتك ارتحتلك وبلاش 350جنيهاً ونخليهم 300جنيه للكيس الواحد ولو لقيت بره بسعر أقل من كده أنا مستعد أقدمه لك مجاناً.
استأذنت منه بحجة أن عمر ممكن يكون عاد بالفعل وجدته شاباً صغيراً سألته عن نفس الفصيلة.
قال: مش موجودة. سألته: طب ممكن ألاقيها فين؟.
قال ـ بنبرة تحمل مغزى ـ دور عليها.
تقبل الله
الساعة لم تتجاوز السادسة والنصف، انتقلت مسرعاً إلى مستشفى الدكتور الشبراويشى الذى لا يفصل بينه وبين مستشفى الدكتور مجدى سوى مسافة لا تتعدى الـ500متر.
موظف بنك الدم كان يؤدى صلاة الصبح أثناء دخولى، جلست فى الاستقبال بضع دقائق حتى يفرغ من صلاته، تقبل الله منا ومنك خير يا أستاذ؟. محتاج دم من فضلك فصيلة "a+".
قال: للأسف مش موجودة حالياً، لكن إنشاء الله أحاول أوفرها لك قبل صلاة العصر أكون اتصلت بمتبرع من نفس الفصيلة.
سألته: هل هو متبرع فعلاً ولا شخص سيأخذ مقابلاً مادياً؟
رد: تفرق معاك؟.
قلت له: تفرق فى الوقت.
قال محتاج قد إيه؟. قلت له: كيسين. قال: 700جنيه.
وطلب نصف المبلغ لتجهيز الطلب، وقال: على فكرة أنا كلمتى واحدة فى الفلوس يعنى مافيش فصال. وتعالى بعد ساعة.
قلت له: فرصة أكون أحضرت الفلوس لأنى لا أحمل معى 350جنيهاً حالياً، نظر إلى بمكر قائلاً: إنه لن يتصل بالمتبرع إلا وفى يده المبلغ كاملاً وأعطانى رقم التليفون.
صورة أخرى من المأساة بطلها شاب لا ينتمى إلى عمره الحقيقى بأى حال، الإعياء ظاهر على وجهه الشاحب وخطواته المتثاقلة ونطقه الصعب للكلمات بفعل ما يتعاطاه من" العجل " هكذا يطلقون على الأقراص المخدرة فى عالم الكيف، الذى يبيعون دماءهم من أجله عندما تضيق بهم السبل.
جلست إلى جواره طلبت منه "كبريتاً".
سوق الدم
طلب منى سيجارة أعطيته العلبة لم أسأله عن اسمه أو مهنته ولكن سألته عن سوق الدم.
قال: أنا كنت ببيع بس دلوقتى بطلت الصحة مابقتش مساعدة وبعدين كل حاجة سعرها ارتفع والسماسرة ما بيدفعوش فلوس مع أنهم بيكسبوا من دمنا.
سألته: كنت بتبيع فين قبل كده؟
رد: أنا كنت ببيع الأول فى "الشبراويشى" وبيدفعوا لى فى الكيس 33جنيهاً وبعدين رحت مستشفى مجدى ودول بيدفعوا 36 فى الكيس، وبعد كده فيه ناس حبيايبى قالوا لى إن مستشفى "مصر الدولى" بيدفعوا فى الكيس الكبير 70جنيهاً.
سألته: أنت كنت بتروح هناك لوحدك؟
قال: فى الأول كنت بروح عن طريق السماسرة وبعد ذلك لما الناس اللى هناك عرفونى بقيت أروح لوحدى.
مين الناس اللى هناك؟.
قال: فى الشبراويشى فيه فتحى وسيد وأحمد خلف ومستشفى "مجدى" فيه حمدى قرافة والصاوى ومحسن، ومصر الدولى فيه محمود عبد الملاك وأخوه لكن مش فاكر اسمه، ومحمد العسكرى.
ودعته منصرفاً بعد أن أصابته نوبة كحة شديدة ولا أدرى لماذا دارت فى خلدى صورته وهو جثه ملقاة فى الطريق من جراء الأنيميا؟!.
إقبال سماسرة الدم على المدمنين بدأ يتراجع مؤخراً، فهم أصبحوا أجساداً مستهلكة، ولذلك فهناك فئة جديدة يتهافتون عليها وهم عمال اليومية خاصة أنهم فى أشد الاحتياج للمال بعد أن تراجعت فرصهم فى العمل وهم ليسوا عمالاً فنيين فأقصى ما يقومون به هو حمل الطوب والرمل والأسمنت ومخلفات البناء، يجلسون فى شوارع القاهرة كل صباح أملاً أن يأتى مقاول أنفار يبشرهم بما طال انتظاره، بسبب الارتفاع الرهيب فى أسعار مواد البناء وانعدام فرصة سفرهم للخارج بعد سيطرة عمال شرق آسيا على سوق العمل فى مقاولات الخليج وافتراش المئات منهم ساحة عمر المختار فى ليبيا، ومعظم هؤلاء العمال مغتربون عن القاهرة وتقريباً سعر كيس الدم يساوى يومية الواحد منهم، وسمسار الدم أو "دراكولا" يعرف أين يجدهم و لن يجد مشقة كبيرة فى استدراجهم و إقناعهم بما يريد.
يكفى أن تقف أمامهم وقبل أن تفتح فمك بأية كلمة، ستجد عشرات منهم يتدافعون حولك عارضين خدماتهم عليك دون أن ينتظروا ليعرفوا ماذا تريد منهم، فمنهم المتزوج ولديه أطفال ومنهم من يعول أسرته.. الظروف صعبة والناس لا ترحم، كما قال لى واحد منهم اعتاد بيع دمه وعندما سألته: ألم تجد حلاً أفضل من ذلك؟، قال: السرقة أو القتل هذه هى الحلول علشان أقدرأجيب أكل لأولادى.
تمنيت ـ فى قرارة نفسى أن أتلاشى ـ من أمامه خجلاً وحزناً لحاله وإجابته التى ذكرتنى بمقولة أبوذر الغفارى: "إذا جاع الناس فلا أمان".
وفى الغالب لكل بنك دم سمساره الخاص وهو من العاملين فيه، هذا السمسار له مجموعة معينة، يستعين بها فى وقت الضرورة أو فى حالات نقص الدم فى البنك.
تختلف أسعار أكياس الدم التى تبيعها البنوك من 230جنيهاً إلى 600جنيه وتزيد الأسعار كلما ندرت الفصيلة، لافتة صغيرة معلقة فى بنوك الدم ستجدها باستمرار"قطرات من دمك تنقذ حياة"، بينما سوق الدم شعاره "كيس من دمك لتواجه متطلبات تلك الحياة"!.
عمال اليومية أحدث زبائنه:
حكايات ومآسى من العالم السرى لبنوك الدم
الثلاثاء، 29 أبريل 2008 08:54 ص