ماذا يحتاج المرء ليصير خرتيتاً؟..لا يحتاج إلى الكثير. فقط أن يطفئ آخر شمعة تنير ضميره و أن يقتل فى نفسه مراكز الإحساس التى تنغص على الإنسان استمتاعه بالحرام، لا.. يحتاج أيضاً إلى أن يعمل فى خدمة الصهاينة فيتلقف منهم خبراً مسموماً كاذباً، فينشره و يترك السم يعمل مفعوله فى الوسط الصحفى. و بناءً على الخبر الكاذب المسموم نجد حالة من الهياج تسرى فى كل الصحف المصرية لمدة أسبوع كامل، الشريف منها و المدنس، كلها تدين العدوان الغشوم الذى ينوى أبناء الشعب الفلسطينى المجرم القيام به ضد الشقيقة مصر التى ضحّت بالغالى و النفيس من أجل القضية الفلسطينية!. الكل يرغى و يزيد، الكل يثور و يتوعد.
لا أحد فكر أن يقف و يسأل نفسه فى احترام و تعقل غابا عن الساحة: هل من المعقول أن يقوم الشيخ عبد الحميد الكلاب بإصدار فتوى من مسجده فى خان يونس تبيح قتل الجنود المصريين؟، هل من الممكن أن يكون هذا الخبر حقيقياً؟. لم يحاول أحد أن يتبين بعد أن تلقف النبأ الفاسق أن يصيب أشقاءنا الفلسطينيين بجهالة، و لم يخش من الندم الذى قد يصيبنا بناءً على هذا التصديق، فرأينا رجالاً "بشنبات" و نساءً بأرداف يمتشقون أقلامهم و يصبّون جام و سام و حام غضبهم على أم رأس فلسطين و الشعب الفلسطينى..أولئك الذين يعدّون للعدوان على أرض مصر و قتل رجالها الذين يحمون الثغور.
و رغم أنه من الواضح تماماً لكل ذى عينين و ضمير حى أن الخبر مفبرك و مصنوع تحت "بير السلم"، إلا أن المسارعة إلى تصديقه تحمل على التصور بأن إسرائيل قد نالت منا فى العصب و حقنتنا بالسم حتى النخاع، و أصبح لها فى إعلامنا رجالها المخلصين الذين يقومون بتدوير الخبر الكاذب بسرعة البرق من أجل أن يكفر الناس بفلسطين و يحرموا الشعب الفلسطينى البائس من التأييد الشعبى و يجعلوا الشعب المصرى المحاصر فى أفران الخبز يكره الشعب الفلسطينى المحاصر فى غزة و الذى تقصف إسرائيل أطفاله بالصواريخ و هم يلعبون فى الشارع.
و على الرغم من أن الشيخ المنسوب إليه هذا الخبر قد نفاه (جملة و تفصيلاً) و هو يؤكد أنه لم يفقد عقله حتى يدعو لقتل جند مصر و أنه كان دائماً من دعاة التآزر و التآخى و الاحتماء بشعب مصر النبيل الذى هو السند الأساسى فى وجه البربرية الإسرائيلية، و بالتالى لا يعقل أن يصدر عنه مثل هذا الهراء، و على الرغم من أنه تحدى أن يأتيه أحد بدليل واحد على صدق ما يزعمون، فإن السادة الذين نشطوا فى إدانة العدوان الفلسطينى المرتقب لم نسمع لهم "حساً" و لم نقرأ لهم اعتذاراً عن غفلتهم و جهلهم، مثلما لم نقرأ لهم من قبل إدانة لقتل المصريين بواسطة جنود العدو داخل الحدود المصرية وآخرهم الطفلة سماح التى فجر رأسها مجرم صهيونى يقف فوق برج مراقبة على أرض مملوكة لجد الطفلة الشهيدة.
و حتى فى أكثر التبريرات تفاؤلاً فإن ما حدث فى الصحافة المصرية من هيستيريا على مدى أيام ضد الشعب الفلسطينى لا تفسير له إلا أننا، وإزاء عجزنا الواضح أمام إسرائيل و عدم قدرتنا على نصرة الأشقاء على الحدود، أصبحنا نميل إلى تحميل الضحية ذنب ما يحدث لها لأننا لا نستطيع أن نواجه الجانى، فصار طبيعياً أن نتمنى الخلاص من الشقيق الضعيف بدلاً من نجدته و إغاثته و نصرته.
و الآن.. هل عرفتم كيف يمكن أن يصير المرء خرتيتاً؟.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة