لا يوجد إنسان على ظهر الأرض يعانى ما يعانيه الإنسان العربى من حساب الزمن، فالدول المتقدمة تحسن تقدير الوقت وتنظيمه ، وتستخدم الساعات اليدوية - بغض النظر عن قيمتها المادية - لتنظيم المواعيد ، وترتيب الأولويات . والأولويات عند الإنسان فى الدول المتحضرة هى العمل ثم العمل ثم العمل ثم الراحة ، وغالباً ما تكون الراحة نفسها نوعاً آخر من العمل ، فهى إما استسلام لهواية نافعة ، أو متابعة برامج مبثوثة مفيدة ، ولو اقتصرت فائدتها على الإمتاع العقلى والنفسى .
أما الأولويات فى العالم العربى ، فهى التفاخر ، ثم الثرثرة ، ثم الهروب من النفس إلى الآخرين ، ثم تزجية الوقت على المقاهى أو فى الأندية . وأما العمل فلا مكان له فى حساب أولويات الإنسان العربى لأنه يظن أن ما يتقاضاه من أجر إنما هو لمجرد تفضله بالحضور والانصراف إلى مصلحته الحكومية أو مؤسسته.
ولا يوجد إنسان على ظهر الأرض يبذل ما يبذله الإنسان العربى فى اختيار ساعة يده ، فهو يدقق ويحقق ، ويسأل ويتثبت ويبحث ويكد ويوسع الخبراء والمستهلكين والتجارة أسئلة واستفساراً عن أجود وأمتن وأقوى وأجمل وأغلى وأدق وأرق الساعات وأشهر الماركات العالمية قبل أن يشترى ساعة لنفسه ، حتى إذا اشتراها وعرضها على رفاقه ومجالسيه وسُمّار لياليه ، لم تعد تعنيه إلا إذا اختلف مع صديق له حول موعد فلم أو مسلسل أو مباراة يذيعها التليفزيون , فهو حينئذ قد يحتاج إلى النظر فى ساعته .
وقد تفننت الشركات العالمية فى إنتاجها ليناسب الذوق العربى فمن المعروف حالياً، أن كثرة الشركات العالمية تنتج كثيراً من منتجاتها وفقاً للذوق العربى لأن أسواق العرب من خير أسواق الأرض توزيعاً ، فالعرب - بطبيعتهم - مستهلِكون - بكسر اللام - (ويجوز فتحها مع شىء من سوء النية ) .
وقد أنتجت بعض شركات الساعات ساعات يدوية مزودة بدوائر إلكترونية توفر لمستخدم الساعة آلة حاسبة ، وذاكرة لأرقام الهاتف ، ومنبِّهاً للمناسبات ، وأجراساً تدق إذا حان وقت معين يريد صاحب الساعة أن يتنبه إليه ، بل واحتوت بعض الساعات مؤشراً يحدد جهة القبلة إذا أراد صاحبها الصلاة ... إلى غير ذلك من خدمات ظنت تلك الشركات أن الإنسان العربى - المفعم بالانشغال - بحاجة إليها .
وقد أقبل العرب على هذه الأنواع المتقدمة من الساعات إقبال الإبل العطاش على الماء البارد العذب ، فاشتروا منها الآلاف وتهادوها بالملايين ، وزينوا بها معاصمهم المصونة وتبختروا بها بين أنديتهم ورفاقهم وأطنبوا فى ذكر محاسنها ومميزاتها وخدماتها التى تشير - فى النهاية - إلى أن مستخدمها رجل شديد الأهمية ، مغرق بالتكاليف المتنوعة ، نهب للمواعيد المتلاحقة ، معرَّض للحسابات الطارئة ، إلى آخر ما فى الساعة من خدمات متاحة .
ثم ماذا ؟
ثم إن العربى بعد أن يحمل تلك الأثقال من الخدمات التقنية المعقدة ، تراه مسترخياً على المقهى ، ساحباً أنفاس الشيشة فى برود قاتل ، يتابع حلقات دخان الشيشة ، وحلقات مسلسلات التلفاز فى هدوء يحسده عليه الشيطان نفسه ، فإذا طلبت منه موعداً غداً تريده فيه قال لك : آخر النهار !! .
وإذا طَلَبَتْ منه زوجه أو أبناؤه موعداً للفسحة تمطى وتثاءب وقال آخر الأسبوع!! .
وإذا دعا داع إلى سفر أو عمل ثقيل ، هز رأسه وقال : آخر العام !!. وهكذا ..
من آخر إلى آخِر - بكسر الخاءين - يظل إحساس العربى بالوقت معدوماً .. فهو دائماً فى الأواخر !! لأن تحديد الموعد بدقة لا يناسب حريته فى الحياة .. وهى حرية متوهمة مزعومة يحاول العربى أن يستعيض نفسياً بها عن حريته الحقيقية المكبلة بأطنان القوانين الموروثة !!
والحرية التى يمنحها الإنسان العربى لنفسه - مقابل حريته المسلوبة - هى حرية مدمرة : فهى حرية ترك العمل ، وحرية حرب الذات عن طريق إدمان المكيفات، وحرية تخريب المجتمع عن طريق التفكك الأسرى المزمن ، وحرية الكذب وتجريح الآخرين ، وحرية النفاق.
ولكن أقساها على الإطلاق هى حرية فتح أسوار الزمن بلا حساب ، فالزمن العربى لا يعرف ساعات اليد الصغيرة ، ولا المنبهات الكبيرة ، الزمن العربى مفتوح على مصراعيه على قدر ما تتسع الرئات لاستقبال الهواء .. ومفتوح بقدر طموح اليهود وأطماعهم اللانهائية فى أرض العرب وثرواتهم ..
فإسرائيل تقتطع جزءاً عربياً فى ساعة ، ويظل العرب شهوراً يتناقشون فى طبيعة رد الفعل ، ثم ينتهون إلى بيان إدانة ووثيقة استنكار يبعثون بها إلى واشنطن مع باقة ورود ناضرة تعبر عن معنى السلام !!
و الزمن العربى يتسع لأحلام الجالسين على المقاهى دون تحديد مواعيد للعودة إلى منازلهم .. فمنازلهم - كالزمن - مفتوحة طول الليل لا يخشون إذا عادوا متأخرين أن تصدهم عن دخولها أو تغلظ لهم فى القول " لصياعتهم " غير المنتهية .
وهكـــذا ..
يميع الجسم العربى الرخو ، ويمتد الزمن العربى السائل إلى ما لا نهاية برغم الساعات الفارهة ذات الخدمات المتعددة فى المعاصم المشغولة بأحجار النرد ، ورصِّ المعسّل فى كراسى الشيشة .
فمن ذا الذى يستطيع أن يضبط ساعات العرب على غروب الشمس وشروقها كما كانت قديماً ، بدلاً من ضبطها على مواعيد "جرينتش" وساعة "بيج بن" الإنجليزية؟
بل من ذا الذى يستطيع أن يضبط الزمن العربى على عقارب الجد فى عصر كل ما فيه - فى العالم العربى - هزل فى هزل؟