"ربنا يستر".. تمتم بها عم سيد سائق سيارة الأجرة التى تقلنا وهو يخفف من سرعة السيارة، لنعبر البوابة الضخمة التى تعلوها لافتة زرقاء، مكتوب عليها: "مرحبا بكم فى قلعة الصناعة المصرية.. المحلة الكبرى".
فى ميدان "الشون"
السيارة توقفت بنا فى ميدان "الشون " أشهر وأهم ميادين المحلة، وموقع انطلاق شرارة أحداث 6 أبريل، لندرك سبب قلق عم سيد، فسيارات الأمن المركزى ومدرعاته تغلق الشوارع الرئيسية، والجنود منتشرون فى كل مكان بملابسهم السوداء المميزة، وأصابعهم متحفزة على أزندة الأسلحة، وضابط صغير السن برتبة نقيب يتحدث فى اللاسلكى : "أيمن بيه، فيه اتنين صحفيين وواحد منهم معاه كاميرا فى ميدان الشون"، نسمع العبارة، فننسحب بهدوء بعيداً عن الميدان الأشبه بالثكنات العسكرية. أمام عربة فول تظهر عليها آثار حريق، يقف "مايكل يحيى( 20سنة)، وتقف والدته على بعد خطوات منه تغسل "قدرة الفول"، مايكل يبيع الفول بالقرب من شارع "البهلوان" الشهير ببيع الملابس والمفروشات، "مايكل" كادت سيارته تحترق، بعد أن أشعل البلطجية النيران فيها فى أحداث 6 أبريل، يقول: "لم أجد ما أفعله سوى أن أقف أمام "العربة" بجسدى لأحميها، فهى مصدر رزقى الوحيد، أنفق منها على والدى المريض وإخوتى، وامى تساعدنى بـ"تدميس" الفول، وغسل الأوانى"، ويصف مايكل مشهد اشتعال عربته قائلا: "كان كابوساً مرعبا" لن أستطيع نسيانه، فالأوضاع صعبة جدا وعربة الفول هى ضمان الحياة الأخير لى ولأسرتى".
المحسوبية تكسب
"مايكل" هنا يعتبر غنياً، وعربة الفول التى افتداها بجسده هى "كنز ثمين" يحسده عليه كثير من أبناء المحلة الذين يتخطى عددهم مليونى مواطن، لا يجد معظمهم مصدر رزق، بعد أن ضاقت بهم جنبات مدينتهم التى تصنف كـ "أكبر مدن مصر الصناعية"، فالوظائف الحكومية اقتصرت على أبناء المحاسيب، بينما لا يجد باقى الشباب عملاً يعينهم على متطلبات الحياة الضرورية، بعيدا عن التفكير فى بناء مستقبلهم أو الإقدام على الزواج وتكوين أسرة. "أم محمد" تسير بالقرب من عربة مايكل تحمل بعض أرغفة الخبز فى يديها، حاولنا أن نكلمها فانفجرت بكلمة واحدة: "حرام"، قبل أن تستدرك: "اللى بيحصل دا حرام، الناس تعمل إيه فى الغلا دا، أنا جوزى راجل أرزقى على باب الله، وبيدينى 20 جنيه فى اليوم، أجيب بيهم زيت من اللى بقى بـ 11 جنية! ولا مكرونة من أم 5 جنيهاً، ولا عدس من اللى بـ 9 جنيه ؟! أنا عندى 4 عيال والطقة الواحدة ما بتقلش عن 15 جنيه، بقينا بنكتفى بوجبتين بس وساعات وجبة فى اليوم توفيرا للنفقات".
مش بتوع مظاهرات
خطوات أخرى ويستوقفنا رجل فى منتصف العمر، ويسألنا: "إنتو بتتكلموا عن الناس بتاعة الإضراب؟"، وقبل أن نجيبه يستمر فى الكلام: "والنبى قولوا للحكومة إحنا مش بتوع مظاهرات ومشاكل، إحنا بس عايزين نعيش، وطلباتنا مش كتير، عاوزينهم بس ينزلولنا الأسعار شوية، ونلاقى رغيف العيش".
أيمن بيه
فجأة يحيط بنا "أيمن بيه" برفقة 5 من رجاله بملابس مدنية، ويقول: "بطاقتك يا أستاذ انت وهو، انتوا بتعملوا إيه هنا" ؟ فنرد عليه: "زى ما انت شايف.. إحنا صحفيين وبنتكلم مع الناس"، فيسألنا "انتو تبع جرنال حكومة ولا معارضة؟"، وقبل أن نرد يسأل: "الكاميرا دى اسمها إيه؟"، فيجيبه زميلى المصور: كانون، فيواصل: "والتانيه دى إيه زووم؟". وقبل أن نرد يكتب فى ورقة: "كاميرتان واحدة كانون، والتانية زووم، الناس ينظرون لنا بشفقة، وقد ظنوا أن إلقاء القبض علينا صار وشيكاً، وبمجرد ابتعاد "أيمن بيه" ورجاله، بعد أن نصحنا بالابتعاد عن قلب الأحداث علشان "المشاكل اللى ممكن تحصلنا" يلتف الناس حولنا مهنئين بالسلامة من "الكمين". المقهى القريب يجلس عليه 5 رجال من أعمار مختلفة يلعبون "الطاولة"، نجلس بجوارهم، ونبدأ الكلام: "إيه الأخبار"، فيجيبونا: "الحمد لله، بس الحالة صعبة أوى، بنهرب من بيوتنا وعيالنا ونقعد هنا"، ويقول أكبرهم وهو يبتسم بمرارة: "لازم نقول الحمد لله على كل شئ، بس اللى بيحصل ده كتير علينا، قبل كده كنا مستحملين، أسعار تغلى نقول ماشى، أقل إيجار شقة بـ 300 جنيه غير النور والمية، منتكلمش، إنما منلاقيش رغيف العيش كمان، دا اللى محدش يقدر يستحمله".
العشوائية المتكاملة
الفقر الشديد الذى يعانى منه أغلب أهالى المحلة، رغم وجودهم فى قلب المدينة لا يقارن - رغم سوئه - بالأوضاع فى المناطق العشوائية المحيطة بها، وتمثل مناطق مثل "المستعمرة" و"أبو دراع" و"سوق اللبن" و"الجمهورية" و"الوراقة"، صورة مجسمة للعشوائية فى التخطيط والأخلاقيات والسلوك، وبينما يحاول أبناء المدينة البحث عن مصدر رزق بأى حال لارتباطهم بأخلاق العامل الذى يفضل أن يموت جوعا ًعلى أن يسرق، ينخرط عدد كبير من أبناء هذه المناطق العشوائية فى الجريمة بكافة أشكالها، فتنتشر بها عصابات منظمة للسرقة والبلطجة لا تتعدى أعمار أفرادها العشرين عاماً، ومنهم من لم يتخط عامه الخامس عشر. منطقة "أبو دراع" قابلتنا بوجوه مختلفة، واحد منها أنها لا تحمل الطيبة والوداعة التى استقبلنا بها أهالى المدينة، شعرنا بنظرات الحقد والحسد فى عيون الأطفال الصغار، ينظرون إلى ملابسنا ـ العادية ـ على أنها شئ نادر، ويلفت انتباههم سواد أحذيتنا فى مقابل اتساخ أقدامهم العارية، ورغم أن المنطقة تتفرع من شارع رئيسى، إلا أن الحال يبدو مختلفاً، فتختفى المحال التجارية، لتحل محلها عربات اليد فى الشوارع غير الممهدة، ويقابلنا الناس بنظرات متشككة، ونشعر أن كلاماً ينتشر بين الموجودين بشأننا، فنقرر الابتعاد عن المكان، نركب "توك توك" إلى منطقة "تقسيم عبد الحميد الشامى" بالقرب من المستشفى العام، فنرى صورة مختلفة تماماً، عمارات شاهقة، وفيلات بأسوار عالية، ولافتات المحلات تضىء بأسماء توكيلات الماركات العالمية.
المهندس فرج عواض، مدير عام صيانة مصانع الملابس وعضو مجلس إدارة شركة غزل المحلة السابق، ألقى باللوم على رجال الأعمال والمستثمرين الذين استغلوا قربهم من السلطة، لتخريب المحلة، بعد أن انضموا لعضوية الحزب الوطنى التى سهلت لهم الاستيلاء على أراضى الدولة بمساعدة الداخلية، ليتوحشوا ويبنوا عمارات وفيلات تتكلف ملايين الجنيهات فى الديكورات والكماليات، بينما لا يجد باقى أهل المحلة قوت يومهم، ويعانون من مشكلات اقتصادية تبدأ بالسكن وتنتهى برغيف الخبز.
عواض
"عواض" يقارن بين والده العامل البسيط بمصنع الغزل، الذى استطاع تربية 8 أبناء، تخرجوا فى الجامعات، بعد أن بنى لهم بيتاً سكنوه عند زواجهم، وبين حاله وهو "المدير العام بالشركة" الذى يمتلك 3 أنوال للغزل، وبالكاد يستطيع الإنفاق على أبنائه الثلاثة طلاب الجامعة، دون أن يفكر بالطبع فى شراء شقة لزواج أحدهم، إلا لو باع كل ما يملك، ويقول:" أنا محسوب ضمن الفئات مستقرة الأوضاع ومرتفعة الدخل، فماذا يفعل المعدم الذى لا يستطيع تدبير متطلبات الحياة الأساسية؟ هؤلاء هم الخطر القادم الذى نخشى انفجاره".
تشترى دبلة؟
شارع "العباسى" هو مركز تجمع تجار الذهب بالمحلة، الكساد يسيطر على السوق وعلى المحال التى أغلقت أبوابها بسبب أحداث الشغب، يستقبلنا الحاج "عبد الله راشد الفرن" صاحب أحد محال الذهب، يتحدث عن أهل المحلة الذين أرهقهم ارتفاع الأسعار، ونسبة البطالة وصلت لـ 80 و 90%، ويشير إلى محله الذى لم يدخله زبون واحد طوال ساعة كاملة قضيناها معه، قبل أن يقول: "ناس مش لاقية رغيف العيش هيدوروا على الدهب؟ إحنا دلوقتى شغالين على الستات اللى بيبيعوا دهبهم، وعلى فكرة دى حاجة كبيرة عند الفلاحين، ومعنى أن واحدة تبيع دهبها إنهم خلاص بقوا على الحديدة، يدخل فى الحديث حسام زويد عبد العال، ابن شقيقة الحاج راشد، ويعمل معه بالمحل، ليروى قصة سيدة أتت ترجوه أن يشترى "فردة حلق" واحدة، وعندما سألها عن السبب، أخبرته أن ابنها مريض وأنها لا تملك ثمن علاجه، وتخاف إن باعت "الفردتين" أن تنفق ثمنهما، فلا يتبقى معها شىء. ونحن نستأذن الحاج راشد فى الانصراف دخلت امرأة تحمل طفلا على كتفها ومدت يدها بدبلة يبدو أنها دبلة زواجها وقالت:"إفصلنا الدبلة دى يا حاج".
عاطل بدرجة جيد جدا
من محل الصاغة تخرج إلى فضاء الشارع، ونرى الركود يخيم على كل شىء، ويقابلنا بعض الشباب، "أحمد إمام" خريج تجارة الإسكندرية، يقابلنا بعد خروجنا من المحل، نسأله عن حاله فيقول:" مش عارف ألاقى شغل، رغم إن تقديرى فى الكلية جيد جدا، المشكلة إن فى واحد زميلى تقديره مقبول واشتغل فى شركة بتروجيت بتليفون لأنه ابن واحد من رجال الحزب الوطنى". قابلنا أيضا "وسام وهبة" خريج كلية الهندسة الذى كان أكثر حظا من زملائه بعمله فى محل الأكسسوارات وكروت الموبايل الذى يملكه والده، يؤكد لنا أن هذا هو حال أغلب أبناء المحلة الذين أنهوا تعليمهم الجامعى. إلى ميدان "الشون" نعود من جديد، ننتظر أول سيارة تعود بنا إلى القاهرة.. السائقون يشكون لنا من مضايقات الشرطة، وعدم وجود "موقف" لسياراتهم بعيدا عن الميدان الذى لا يحتمل الزحام، "أحمد سعيد" سائق السيارة التى ركبناها يقول وهو يسير على الطريق:" أنا يوميتى 25 جنيه، الناس بتحسدنى عليها مع إنها والمصحف الشريف ما بتكفيش أى حاجة، طب حضراتكم قولولى أدفع منها الإيجار؟ ولا العلاج لإبنى الصغير العيان ولا مدارس ودروس اخواته ولا هدومهم ولا أكلهم"، ثم ينفعل فيترك مقود السيارة ويخبط بيديه على رأسه، فتصرخ فيه واحدة من الركاب:" يا اخويا بص لطريقك بس وامشى، الأسعار جننت الناس". السيارة فى طريقها للخروج من المحلة، تتقافز على "مطبات" الطريق غير الممهد، وعند مدخل المدينة على الجانب الآخر من الطريق نرى عمالاً يزينون مبنى صغيراً تعلوه لافته مضيئة، تم تركيبها حالاً، تحمل شعار وزارة الداخلية، وأسفله: "نقطة مرور العلو ترحب بكم".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة