هناك حكمة تقول "العنف هو صوت اختناق العقل فى الحنجرة، ومن يخطو خطوة البداية يقطع نصف الطريق إلى النهاية.. ويجب أن ندعو الله أن يقوى ظهورنا، لا أن يخفف أحمالنا" ... ولكن يبدو أننا أمة كتب عليها إضعاف ظهرها وزيادة أحمالها"، فرغم الخطوات الوئيدة للوصول إلى دولة المدنية ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح والولوج لعصر المدنية والحداثة والتواصل مع منجزات الحضارات الراقية التى أرست معايير العقل والتسامح وفعّلت من روح الابتكار والمبادرة واحترام حقوق الإنسان على كافة الأصعدة، نجد مازال فى جوف أرضنا جحافل من الماضوية وأقدام تخرج متكدسة تدوس على المدنية بعنف وبلا رحمة وترسى ثقافات حلقات الذكر الفاشية.
وهذا يفسر الجدل الذى ثار بشأن طرح قانون منع التظاهر فى دور العبادة، وبعض الأصوات التى اعتبرت ذلك قيداً على حق المصريين فى التظاهر حسب تعبير بعض قيادات الإخوان، المستفيدة الوحيدة من عدم إقرار هذا القانون المدنى الذى يحافظ على حرمة أماكن العبادة، حيث اعتادوا استغلال ساحات هذه الدور فى رفع الشعارات الدينية المطاطة واستعراض القوة القتالية من خلال مليشياتهم كما حدث أواخر العام قبل الماضى ... فهذا القانون والذى تنص مادته الأولى .. "حظر تنظيم المظاهرات لأى سبب داخل أماكن العبادة أو فى ساحاتها" هو تفعيل للدولة المدنية الحديثة وفصل الدين عن الدولة ومنع أى تيار من بث أفكاره الماضوية فى ساحات دور العبادة للحفاظ على تماسك الدولة المدنية ... وبالتالى فإن رفض طائفة الإخوان (الحماسية) يرجع لأنهم يحرصون على استخدام المساجد وخاصة الجامع الأزهر، ليكون منبراً لهم وكأنهم متحدثون باسم الدين، ومستشهدين زورا وبهتانا بأن ثورة 1919 خرجت من الأزهر غافلين أنها كانت ثورة مدنية خرج فيها جميع المصريين بكل طوائفهم ضد المستعمر الإنجليزى، وليست طائفة بعينها تستغل دور العبادة لبث أفكارها هى عن الإسلام بمعتقداتها هى وبتفسيراتها هى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، والتى تستشهد فيها بما أحدثته حماس فى فلسطين ...
وقبل أن نسرد بعض مواد الدستور لابد من التأكيد ـ وهو ما اتفق عليه فقهاء القانون والسياسة – أن ترسيخ دولة المواطنة والدولة المدنية الحديثة ليست فقط دولة حريات العقيدة والدين، ولكنها فى المقام الأول دولة سيادة القانون الحامى والمحصن لكافة أشكال حريات التعبير والاعتقاد ... فتقول المادة (5) من الدستور ما يلى نصا .."يقوم النظام السياسى فى جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب وذلك فى إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصرى المنصوص عليها فى الدستور وينظم القانون الأحزاب السياسية ... وللمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية وفقا للقانون ولا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس دينى أو بناءً على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل"... ونلحظ هنا أن المشرع قد ذكر تحديدا .."لا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى" .. فما معنى أى نشاط سياسى؟ فنص المادة واضح لا لبس فيه .... وتقول المادة (46) .. "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية"، ولم تكفل على الإطلاق حريات العمل السياسى داخل أروقة دور العبادة، فدور العبادات طبقا للمشرع هى دور لممارسة الشعائر الدينية فقط، وبالتالى فالاستناد إلى نص المادة (54) التى تقول .." للمواطنين حق الاجتماع الخاص فى هدوء غير حاملين سلاحا ودون حاجة إلى إخطار سابق، ولا يجوز لرجال الأمن حضور اجتماعاتهم الخاصة والاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات مباحة فى حدود القانون" ... فهذا الاستناد تعميم ما ليس بداخل النص، فنص المادة يقول حق الاجتماع الخاص بهدوء ولم يقل فى دور العبادة، حيث كما أشرنا فى المادة (46) حدد دور العبادة وكفالة الدولة لحمايتها أثناء ممارسة الشعائر الدينية، وليس على وجه الإطلاق ممارسة العمل السياسى ... أعتقد أنه من المجدى والأكثر أهمية أن نناضل فى ترسيخ دولة القانون وسيادته واحترامه وتنقية الأجواء من الانقضاض على القانون ومكافحة القوانين المقيدة للحريات بشكل قانونى وعبر آليات قانونية ... فأى حقوق لأناس يخلطون العمل السياسى الذى هو فى الأصل عمل مدنى يرتبط بآليات محددة كالأحزاب السياسية الشرعية، وبين ممارسة الشعائر الدينية فى دور العبادة ... هل دور العبادة تصلح لتنظيم مظاهرات ذات طابع سياسى، وهل هذا يتفق مع الدولة المدنية الحديثة، دولة كل المواطنين، هل يتفق مع دولة تنشد الحداثة والديمقراطية، هل دور العبادة أصبحت أروقة لتنظيم المظاهرات ورفع الشعارات السياسية، أفليس فى هذا انقضاضاً على مدنية مصر ودستورها؟ ثم ما هى المظاهرات أو التجمهرات التى يمكن أن تمارس فى دور العبادة أو ساحتها، أفليس هذا تدعيما للطائفية؟ بحيث ستخرج مظاهرة أو تجمهر من جامع الأزهر تقودها ميليشيات طائفة الإخوان، وكذلك ستخرج مظاهرات من كاتدرائية العباسية تحمل شعارات طائفية، أفليس فى هذا انشطار للوطن إلى طائفتين أو شعبين؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة