يمنح كتاب " نادر" عن ثلاثية نجيب محفوظ كثيراً من الثقة والأمل للكتاب الشبان الذين يتجاهلهم النقاد طويلاً إذ يقول مؤلفه الشاعر المصرى الراحل نجيب سرور إن أى قوة لا تستطيع إلغاء الكاتب الحقيقى بدليل بقاء أعمال محفوظ رغم محاولات تهميشه وتجاهله.
ويقول سرور فى كتاب عمره نحو 50 عاما إن محفوظ قدوة لكل المخلصين لفنهم.. ليوقنوا كما أيقن هذا الرجل أن قوى العالم أجمع لا يمكنها أن تقتل فنانا أصيلاً.. وأن نقاد العالم أجمع لا يستطيعون أن يخلقوا من الأقزام عمالقة ولا من العمالقة أقزاما وأن النصر فى النهاية للإخلاص والإصرار والثقة بالنفس واحترام الكلمة.
وأصدرت (دار الشروق) بالقاهرة كتاب (رحلة فى ثلاثية نجيب محفوظ) ويقع فى 297 صفحة متوسطة القطع.
وعلى الغلاف الأخير سجل الناشر أن هذا الكتاب " نادر" إذ نشرت فصوله فى مجلة (الثقافة الوطنية) اللبنانية عام 1959 ثم كتب مؤلفه فصولا أخرى منه حتى عام 1963 وجمع الناقد اللبنانى محمد دكروب هذه المقالات وحققها ونشرها فى كتاب عام 1989 وأنه يتاح الآن على نطاق واسع باعتباره رحلة ممتعة للقارئ بين عظيمين من عظماء أدبنا العربى فى إشارة إلى نجيب محفوظ ونجيب سرور (الشاعر والمخرج وكاتب المسرح الذى ولد عام 1932وتوفى عام 1978).
ويقول سرور فى الصفحة الأولى من الكتاب إن محفوظ قدوة فى كل شىء فى السلوك والإخلاص للكتابة والإيمان بأن القيمة الفنية وحدها هى ما يبقى من الأدب. ويضيف أن النقد الأدبى ظلم محفوظ حين أحجم طويلا عن الحكم عليه كما ظلمه حين حكم عليه. وعلق دكروب منبها إلى أن هذا الكلام كتب عام 1959 قبل أن يصبح محفوظ ملء السمع والبصر.
لكن الثابت أن أكثر من 15 عاما من التجاهل لروايات محفوظ وقصصه لم تزده إلا إصرارا على مواصلة مشروعه وهو تأسيس الرواية العربية فى وقت كان عباس العقاد يسخر فيه من فن القصة ويشدد على أن بيتا واحدا من الشعر يزن ما لا يحصى من القصص. ومنذ مطلع الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات نشر محفوظ نحو عشرة أعمال ورغم تلك الغزارة فلم يتحمس للكتابة عنه إلا ناقدان هما أنور المعداوى (1920ـ 1965) وسيد قطب (1906ـ 1966) الذى بلغ من الحماس قدرا دفعه للقول إن محفوظ هو أمل هذا الفن الروائى الجديد.
وبعد صدور الثلاثية (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) فى منتصف الخمسينيات فوجئ محفوظ باهتمام كثير من النقاد بأعماله السابقة حتى أن الناقد المصرى الراحل لويس عوض (1915ـ 1990) كتب مقالا عنوانه (نجيب محفوظ.. أين كنت؟) سجل فيه أن الحفاوة بمحفوظ مبررة ولكنها تدين النقاد الذين تجاهلوه طويلاً. وقال عوض "ما عرفت كاتباً رضى عنه اليمين والوسط واليسار ورضى عنه القديم والحديث ومن هم بين بين مثل نجيب محفوظ. فنجيب محفوظ قد غدا فى بلادنا مؤسسة أدبية وفنية مستقرة قائمة وشامخة. والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التى هى نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التى تستمد قوتها من الاعتراف الرسمى فحسب بل هى مؤسسة شعبية أيضا يتحدث عنها بمحض الاختيار فى المقهى والبيت وفى نوادى المتأدبين والبسطاء".
أما عميد الأدب العربى طه حسين (1889ـ 1973) فكتب عام 1956عن (بين القصرين) قائلا" إن محفوظ أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة ومن العمق والدقة ومن التأثير الذى يشبه السحر ما لم يصل إليه كاتب مصرى قبله". وتوجت مسيرة محفوظ (1911ـ2006) بالحصول على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988، ولايزال العربى الوحيد الذى نالها فى هذا المجال. ويبدأ سرور كتابه بمدخل إلى رواية (بين القصرين) رافضا منهج معظم النقاد فى تلخيص الأعمال الروائية لاعتقاده بأن التلخيص عملية عدوانية تنصب على العمل الفنى فتجرده من اللحم والدم وتحيله إلى هيكل عظمى لا نبض فيه ولا دفء ولا حياة، لكنه يتتبع الطريقة الفنية التى عمد إليها محفوظ فى البناء الروائى.
ويقول إنه يفضل الكاتب الذى لا يمنح قراءه كل شىء ويميل إلى الأعمال التى يسعى كاتبها إلى أن يشاركه قراؤه فى عملية الإبداع حين يترك لهم حرية الكشف. فمثل هذا الكاتب يكون كبير الثقة بقرائه وأن محفوظ من هذا النوع.
ويضيف أن العمل الفنى لا يكتمل بمجرد فراغ المؤلف من كتابته وإنما يبلغ تمامه بمجرد فراغ القارئ من اكتشافه. ومن هنا كان جهد القارئ لازما لإتمام جهد المؤلف حتى تكتمل صورة العمل الأدبى بتفاعل طرفى المعادلة.
ويصف سرور البناء الفنى لرواية (بين القصرين) بأنه غاية فى البساطة وغاية فى التعقيد أيضا ولهذا تستطيع (بين القصرين) أن تهز القارئ لأنها عالم رحب شامل عميق ضمن مسار روائى مقسم إلى مجموعة من اللوحات مجموعها 71 لوحة تمثل كل منها لحظة زمنية نابضة بالحياة. ويضيف أن محفوظ بارع فى الغوص إلى أعماق الشخصية والإعجاز فى التجسيد الداخلى لها فى حساسية تجعله فى مستوى الفرنسى بلزاك والروسى نيكولاى جوجول والبريطانى تشارلز ديكنز.
ومن مهارات محفوظ فى نظره أنه يركز فى السرد الروائى ـ بتصوير موضوعى ـ على النمط الإنسانى لا على العقدة، كما يعتمد على التحليل النفسى والنقد الاجتماعى بلا صراخ ولا مليودراما ويصبح التاريخ فى سطور الرواية "حيا مشهودا" فى الأحداث والطرز السائدة فى العمارة والأساس المنزلى والملابس والموسيقى والغناء والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والسياق الاقتصادى. ويقول سرور إن محفوظ يكتب بحيادية ظاهرة إزاء شخوصه جميعا ويرسم لكل نموذج إنسانى تناقضه الداخلى العميق وأبعاده النفسية والموضوعية المستقلة عن النماذج الأخرى وعن شخصية المؤلف. ولا نعثر لدى نجيب محفوظ على الشخصية الوحيدة الجانب، حيث إن منطق الفن هو الصراع والتركيب بعيدا عن التسطيح والثبات.
ويرى أن هناك قطبين لأزمة المرأة خلال زمن الرواية التى تبدأ أحداثها عام 1917 أحدهما إيجابى يمثله السيد أحمد عبد الجواد والثانى سلبى تمثله زوجته أمينة والعلاقة بينهما "بين ذات وشىء. علاقة غير متجانسة وغير متكافئة وغير إنسانية قوامها الاستبداد المطلق فى طرف والخضوع المطلق فى الطرف الآخر. تماما كعقد الإذعان".
ويعيب سرور على "جميع النقاد" عدم انتباههم إلى الكوميديا الواضحة والبارزة جدا فى ثلاثية محفوظ مبديا دهشته من أن خط الكوميديا فات كل نقادنا رغم كون الكوميديا طابعاً أصيلاً للمزاج المصرى الذى لا تستوقفه إلا النكتة الصارخة غير المعتادة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة