مع حلول ذكرى العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ الحادية والثلاثين، يصر البعض على طرح تساؤلات مشروعة حول سبب "المولد" الذى يقام ولا يفض حول ذكراه، على اعتبار أنه ليس سيد درويش الذى اكتشف الهوية المصرية فى الموسيقى، وليس القصبجى الذى أدخل الهارمونى إلى الموسيقى المصرية، أو محمد فوزى صاحب المدرسة الموسيقية الخاصة به والذى سبق بها زمنه على الأقل بخمسين سنة، أو عبد الوهاب موسيقار الأجيال.
لكن الواقع يؤكد أن حليم ليس مجرد مطرب سحر قلوب النساء ولكنه صاحب سبق فى إدخال التعبير إلى الغناء مثلما أدخله سيد درويش إلى التلحين، وهو ما يتجلى بوضوح من خلال أغانى "موعود" و"سواح" وقصيدة "حبيبتى من تكون؟". وتكمن عبقرية حليم فى قدرته على تغيير ذوق الناس الغنائى فى سابقة هى الأولى فى تاريخ الغناء العربى ـ الأمر الذى لم يحدث عالميا إلا من خلال "الفس بريسلى" فى السبعينيات من القرن الماضى فى الموسيقى الأمريكية، و"جيمس براون" الذى أسس موسيقى "الفانك" أو "الفولكلور الأمريكى" ـ حيث نقل حليم المستمع من موسيقى عبد الوهاب، التى تعتمد على الجمل اللحنية الطويلة والدسمة والتى تميل إلى الطابع الغربى، إلى المدرسة الحليمية التى بلورت الغناء المصرى السهل والبسيط والذى لم يفتقد إلى العمق المعتمد على التعبير والإحساس أكثر من القدرات الصوتية.
فقد جعل حليم كل مستمع يستطيع أن يغنى ويحلم بأن يكون مطربا، مما جعل أغانيه على كل لسان، وتجلت شخصية حليم الموسيقية فى ألحان محمد الموجى وكمال الطويل، وبعدهما بليغ حمدى أصحاب الجمل اللحنية الخفيفة والرشيقة السهلة التى يمكن أن يغنيها المستمع العادى. كما غير حليم الفكر الموسيقى لموسيقار الأجيال نفسه، لينتقل إلى نوعية جديدة، كما فى أغنيات "أنا لك على طول" و"توبة" و"عشانك يا قمر" التى غناها حليم فى فيلم "أيام وليالى" ليكتب حليم لعبد الوهاب بطاقة الدخول إلى عالم الأغنية الشبابية.
وواهم كل من يدعى أنه أول من قدم الأغنية "الفيديو كليب" فحليم كان أول من قدمها فى "دقوا الشماسى" و "جانا الهوى" و "مشيت على الأشواك"، قبل ما يقرب من 40عاما، وهى لا تزال مادة خصبة للاقتباس فى كليبات "اليومين دول". كما كان العندليب أول من قدم "الأغنية الشعبية" فى شكل أكثر شبابية، كما فى "أنا كل ما أقول التوبة" و"سواح"، ووضع لها شكلا خاصا كان سبقا جديدا سجل باسمه، أما عن "الغناء الوطنى"، فقد كانت لحليم بصمة متفردة جدا وسط كل من قدموا هذا اللون على مستوى العالم، فهو المطرب الوحيد الذى غنى لوطنه بمناسبة النصر وأيضاً الهزيمة، والتى حولت مشاعر الجماهير وقتها من مرارة الهزيمة إلى حماس ورغبة فى مواصلة الكفاح، وهى المعجزة التى عجز عنها السياسيون جميعا، ومثّل حليم مع أم كلثوم أداة الزعيم ناصر السياسية لتعبئة الرأى العام المصرى والسيطرة على تحركات الجماهير.
وكان حليم مطربا شابا وشبابيا من طراز فريد من أول مظهره ومتابعته للموضة، ووضعه معايير خاصة للوسامة لشكل الفتى الجان وقتها ـ بعيدا عن عمر الشريف ورشدى أباظة وشكرى سرحان وأحمد رمزى وكمال الشناوى ـ وضع حليم قوانينه الخاصة لشكل الجان بجسده النحيل وشعره القصير وبشرته السمراء وعينيه المليئتين بالآسى، مرورا بأغنياته التى أدخل على توزيعها الآلات الغربية التى ظهرت كموضة فى الغناء فى مطلع السبعينيات بما فيها القصائد مثل "قارئة الفنجان" و"رسالة من تحت الماء"، والتى قدمها بشكل خفيف جعل الشباب لأول مرة يعشقون الفصحى. كما استطاع حليم أن يكون رمزا للرومانسية المفعمة بمشاعر الحنان التى صدقتها الفتيات لتتخيل كل واحدة أنه فتى أحلامها دون أن يحتاج إلى أن يفتح صدره أو يترك ذقنه أو يلبس فانلة داخلية ليجذبهن.
حيث كان أول من أدخل التنهيد فى التعبير عن الرومانسية، ولن تنسى أية فتاة تنهيدات حليم لشادية وفاتن حمامة وإيمان وزبيدة ثروت فى أفلامه السينمائية، حتى أن كل ممثل جاء بعده حاول التنهيد اتهم بتقليده، والأغنيات العاطفية التى جاءت بعده ونسمعها إلى الآن ما هى إلا استنساخ وإعادة صياغة للأغنية الحليمية فى الإحساس والأداء والتعبير والجمل الموسيقية البسيطة والصغيرة ليبقى تصدره للأغنية الشبابية ممتدا إلى الآن ولأكثر من نصف قرن.
فقد سبقت أصوات عديدة بعضها قطعا أفضل وأقوى من حليم نظريا، ولكن معظمها ارتفع وصمت لوقت طويل، إلا أن صوت العندليب ارتفع ولم يصمت منذ مجيئه ومعه أدواته فى التواصل مع الجمهور، وفى الوقت الذى كان يقف فيه كل من فريد الأطرش ومحمد فوزى وأم كلثوم وفيروز مثل "الألف" على المسرح، كان حليم يتفاعل مع الجمهور يتمايل ويصفق ويتحرك ويفعل ما هو أكثر كما حدث فى إحدى حفلات الربيع حين أطلق صافرة طويلة بيده وهو على المسرح بعفوية وصدق وتلقائية كانت جواز مروره إلى قلوب وآذان وعقول جمهوره. وتبقى المدرسة الحليمية ينبوعا غنائيا مازال به الكثير يكفى لخمسين عاما قادمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة