لعله من مفارقات عملية العولمة الحديثة الجارية، أنها بينما تحفز على تأكيد الذاتيات المحلية والثقافات التاريخية، تربط فى الوقت نفسه بين مصائر شعوب العالم معاً على نحو أوثق، وليس ثمة خطر كبير فى أن يختفى تمايز الثقافات والتقاليد الوطنية، فالواقع يؤكد أن قدراً من الأمن للذاتية الوطنية يمكن أن يعتبر شرطاً مسبقاً لازماً لتوجه دولى أكثر ثقة وأكثر سماحة، والأمر المرجح فى المستقبل أن ترحب كافة القوى الديمقراطية فى العالم بمثل هذا التطور طالما أن الاتجاه إلى تحقيق عالمية الديمقراطية ومبادئها يقوى بالضرورة النزعات الإنسانية وتفعيل قيم التسامح والتصالح.
فعندما تم تأسيس منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (UNESCO) كان الهدف منها بث روح التصالح والتسامح بين ثقافات العالم المختلفة، والحفاظ على التراث العالمى، إضافة إلى النهوض بالثقافة والتعليم فى كافة الدول وإعلاء قيم احترام الآخر والحفاظ على الهويات المختلفة وخصوصيتها مع تواصلها مع الحضارات العالمية ... ومع تطور المجتمعات واتساق قيمها فى ظل العالم المفتوح وتعدد الثقافات وتكاملها والاعتماد المتبادل، أى ترسيخ لقيم العولمة الإنسانية، صارت هذه المنظمة المظلة والآلية العالمية للحفاظ على التراث الإنسانى– المادى والروحى – وتنقيته من أى شوائب عنصرية أو استبعادية أو إقصائية.
والسؤال: إذا كانت مصر بالفعل تطمح بأن تفوز من خلال وزير ثقافتها بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو، لابد وأن يكون هناك إيمان بهذا الطموح لدى كل المؤسسات المصرية، قبل أن يكون طموحاً خاصاً بالوزير الذى يسعى إلى اعتلاء هذا المنصب.
لذلك فإن الهدف الرئيسى الذى لابد وأن تجتمع حوله كافة المؤسسات فى مصر أن هناك طموحاً عالمياً لاعتلاء هذه المنظمة المنوط بها حماية التراث والثقافة العالمية، وأن مصر التى تسعى لاعتلاء هذه المنظمة تتميز بأنها وطن يحتضن ثلثى آثار العالم الحضارية، وثقافة تضرب فى عمق التاريخ، وإنجازات عظيمة على الصعيد الحضارى والمدنى متمثلاً فى أنها أول دولة عرفت الاستقرار، وهكذا تتضح معالم الطموح الجمعى لأهمية المنافسة على هذا المنصب الرفيع.
فدولة بحجم مصر وإرثها التاريخى والحضارى والثقافى لابد وأن تكون لها أولوية فى اعتلاء منظمة تعنى بالحفاظ على التراث الثقافى والحضارى العالمى كمنظمة اليونسكو، لذلك فإنه من الضرورى أن تتكاتف جميع المؤسسات المصرية فى مساندة المرشح المصرى وتسويقه لنجاح الطموح المصرى لاعتلاء هذه المنظمة، وعطفاً على ذلك فأتصور أن الطموح المصرى أكبر بكثير من مجرد طموح وزير- حتى وإن كان هذا حقه – فى اعتلاء هذه المنظمة، فما تملكه مصر من إمكانات حضارية وخصوصية ثقافية يجعلها مؤهلة للحصول على هذا الامتياز.
السؤال: أين هى الاستراتيجيات المصرية المتكاملة والسياسات الفعالة لتسويق هذا الطموح المصرى للوصول إلى هدف اعتلاء المنظمة الدولية؟ أتصور أن هناك غيابا شبه كامل للمؤسسات فى ذلك، فهل مجرد أن تنوى مصر ترشيح أحد أبنائها – حتى ولو بحجم وزير الثقافة – يعد كافيا.
لابد وأن يتم تفعيل هذا الترشيح عبر آليات داخلية تتفاعل مع نظيراتها الخارجية وتتلخص استراتيجيات التسويق هذه فى تكامل المؤسسات الوطنية بالخارج وتسويق تراث مصر ومرشحها مع الكيانات والمؤسسات المؤثرة والفاعلة فى كافة أنحاء العالم، وكذلك طرح رؤى مرشح مصر لكيفية التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى من منطلق واحد ووحيد، هو صياغة رؤية ثقافية قائمة ومنطلقة من مبادئ التسامح والتصالح والتفاعل بين الثقافات المختلفة.
لا فضل لثقافة على أخرى أو حضارة على أخرى، وإنما تتكامل هذه الثقافات للبحث عن عالم تسوده روح التسامح والانفتاح مع كامل الاحترام للذاتيات والخصوصيات الوطنية ... هكذا هى فلسفة اليونسكو، وهكذا يجب أن تكون فلسفة أى من المرشحين... والسؤال الأخطر والأخير! هل يمكن أن تضيف مصر إلى هذه المنظمة العريقة بمبادئها وفلسفاتها السامية فى الحفاظ على التراث العالمى وبث قيم التصالح لا الصدام والتفاعل لا الصراع والتسامح لا الكراهية واحترام الآخر لا نفيه ولا إقصائه، بقيم التعليم الابتكارى لا العنصرى؟
نعم يمكن أن تضيف بميراثها الحضارى المتباين والمتنوع وبما تملكه من حضارة تضرب فى عمق التاريخ، فهى أول الحضارات التى عرفت الدولة والكتابة والاستقرار، ولكن هل تتوافق قيم تعاليمها فى مناهجها المختلفة وثقافتها المعاصرة مع قيم التسامح وليس العنصرية؟ سؤال موجه لمن يطمحون فى اعتلاء المنظمة العريقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة