أحمد عبدالمعطى حجازى

مظاهرة المقطوعين!

الجمعة، 05 ديسمبر 2008 05:21 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قطع اليد لم يمنع من السرقة، والجلد لم يمنع من القذف، والإعدام لم يمنع من القتل، وإذن فالمقصود بالعقوبة البدنية ليس حفظ الأمن أو إصلاح البشر، وإنما هو الثأر أو الانتقام.

لن أنسى مظاهرة المقطوعين الذين استقبلونا بأذرعتهم المرفوعة بغير أكف فى شوارع الخرطوم التى كنت أزورها لأول مرة قبل حوالى ربع قرن لأشارك فى الاجتماعات التى قررت المنظمة العربية لحقوق الإنسان برئاسة المرحوم الأستاذ فتحى رضوان عقدها فى العاصمة السودانية تعبيرا عن تضامنها مع السودانيين وتفاؤلها بعودة الديمقراطية للسودان على يد الضابط النبيل سوار الذهب الذى استطاع أن ينتزع السلطة المسروقة من يد النميرى وشركائه لا ليحتفظ بها كما يفعل عادة مدبرو الانقلابات العسكرية، بل ليعيدها إلى أصحابها الشرعيين، وهم المواطنون السوادنيون الذين دعوا لانتخاب حكومة ديمقراطية جديدة. انتخبوا حكومة الصادق المهدى التى رحبت بالمنظمة العربية لحقوق الإنسان ودعتها لعقد اجتماعاتها فى الخرطوم.

كان مشهدا خرافيا مخيفا، عشرات أو مئات الأذرع السوداء المقطوعة من الرسغ وقد رفعها أصحابها وساروا كأنهم غابة تمشى فى الخريف وقد عريت فروعها من الورق الذى كان يغطيها، هؤلاء هم الذين اتهموا بالسرقة فى أيام النميرى، أتوا يشهدوننا على ما صنعه بهم اللصوص الحقيقيون الذين لم يسرقوا دجاجة أو بقرة أو حافظة نقود وإنما سرقوا وطنا بكامله، أذلوا أهله، وأثاروا جنوبه على شماله وشرقه على غربه، وزعموا أنهم بهذا الخراب الشامل يعلون راية الإسلام!

كانت هذه هى زيارتى الأولى والأخيرة حتى الآن للسودان أعرف ما يضمه من جمال لا ينفد وما يملأ صدور أبنائه من نبل وكرم وإنسانية، لكنى لم أعد أستطيع أن أذكره دون أن أذكر مظاهرة المقطوعين من أبنائه، هذه المظاهرة التى تجسد لى ما فى العقوبات البدنية من قسوة وضراوة ووحشية، متهم مسكين ربما كان بريئا لكنه لا يملك الدليل على براءته، يقهر أن يمد يده لرجال لا يعرفهم يمسكون بسكين ليقطوعها دون أن يختلج لهم جفن، وربما تلذذ بعضهم بهذا الفعل الشنيع كأنه يعد لنفسه وجبة دسمة. واليد ليست مجرد طرف من أطراف الجسد وإنما هى جزء من كيان الإنسان أو هى رمز لهذا الكيان كله، لأنها ثمرة تحضره التى انتقلت به من الحيوانية إلى الإنسانية عندما صارت له يد يستطيع بها أن يزرع ويقلع، ويرسم وينحت، وينقش ويكتب، ويعزف ويدق، ويمسك بيد صاحبته ويمسح دموع بنيه، واليد فى اللغة هى الجاه والوقار، وهى القدرة ومنع الظلم، وهى النعمة والإحسان، وقطع اليد قطع لهذا كله.

من هنا وجدنا الرسول الكريم يتغير وجهه عندما شاهد تنفيذ هذا الحكم القاسى «كأنما ذر عليه الرماد»، وفى حالة أخرى كما جاء فى رسالة للأستاذ جمال البنا عن تطبيق الشريعة ووجدنا فقهاء المسلمين يحيطون تطبيق هذه العقوبة البشعة بشروط لا تكاد تسمح بتطبيقها، وفى هذا يقول الرسول ادرأوا الحدود بالشبهات، فإن كان له -أى للمتهم- مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة، لأن الخطأ فى العفو يستدرك، أما الخطأ فى العقوبة فلا يستدرك أبدا، وأخيرا فقد وجدنا من الفقهاء القدماء والمحدثين من يضع المقاصد والغايات فوق النصوص التى لا نعمل بها إلا لنحقق هذه الغايات، وعلى هذا الأساس يفهم معنى القطع، فالقصد من هذه العقوبة ليس قطع اليد وإنما قطع السبل المؤدية إلى السرقة، أى تنمية المجتمع وتزويده بما يوفر ضرورات الحياة لأفراده، ويحصنهم أخلاقيا فلا يغريهم شىء للخروج على القانون، فإن أخطأ أحدهم أو أجرم ففى مصادرة حريته ما يقطع ويمنع.

والذى يقال فى قطع اليد يقال فى الجلد وفى الرجم وفى كل العقوبات البدنية التى يظن البعض أن الإسلام هو الذى شرعها لأنها لم تكن موجودة من قبل، وهذا غير صحيح، فالعقوبات البدنية كانت موجودة فى مصر القديمة، وفى العراق القديم، وفى الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان معمول بها فى المجتمعات الأوروبية فى أواخر القرن الثامن عشر. ونحن نعرف أن قوانين حامورابى وهو ملك بابلى عاش فى القرن السابع عشر قبل الميلاد تنص على أن العين بالعين والسن بالسن، لكن هذا القانون لم يقض على الشر ولم يمنع وقوع الجريمة التى يتسبب فيها الحقد أو الخوف أو الطمع أو سوء التقدير أو غير ذلك من صور الضعف البشرى الذى قد يكون مرضا يعطل إدراك الجانى ويعمى بصيرته ويدفعه لارتكاب جريمته، فهو ضحية هذا المرض مثله مثل المجنى عليه سواء بسواء.

قطع اليد لم يمنع من السرقة، والجلد لم يمنع من القذف، والإعدام لم يمنع من القتل، وإذن فالمقصود بالعقوبة البدنية ليس حفظ الأمن أو إصلاح البشر، وإنما هو الثأر أو الانتقام الذى كان حقا معترفا به للفرد فى المجتمعات الهمجية حتى قامت الدولة فأصبح الانتقام قانونا تعمل به الدولة وتقوم بأخذ الثأر هى نيابة عن الأفراد. هذه الخطوة كانت للأمام من حيث إنها نظرت إلى الجريمة بوصفها خروجا على القانون أى عدوانا على المجتمع كله وليس على فرد أو عائلة، وهذا حق، لكن نظرة الدولة للعقوبة البدنية لم تتغير، فقد ظلت العقوبة البدنية ثأرا أو انتقاما، إن كان مفهوما صدوره عن الفرد الذى ينساق لغرائزه وينقاد لشهواته فهو ليس مفهوما من الدولة التى تعتبر عقل المجتمع يملك خبرته، وتستعين بأدوات ومؤسسات تحميها من أسباب الضعف البشرى التى تؤثر فى تفكير الفرد وفى سلوكه.

من هنا راجعت الدولة الحديثة نفسها، وأعادت النظر فى قوانينها مستنيرة بما كشفته علوم النفس والمجتمع من حقائق تؤكد أن العقوبة البدنية لم تكن أبدا مجدية، فضلا عن أنها لم تكن أبدا إنسانية، وتلك هى قضيتنا التى يدعونا لبحثها اليوم الحكم السعودى بجلد الأطباء المصريين. وأول ما يجب أن نفعله ونحن ننظر فى هذه القضية ألا نحصرها فى هذا الحكم الذى أثارها، وأن ننظر إليها ضمن مراجعة شاملة لموقفنا القانونى والأخلاقى من صور العنف التى يقبلها مجتمع أحيانا، أو يبررها، أو يغض النظر عنها حين يقع العنف من الرجال على النساء، أو من الآباء على الأبناء، أو من المدرسين على التلاميذ.

ولقد اتسعت الآن دائرة العنف وارتفعت حدته وأصبحنا نقرأ أخبارا عن مدرسين متوحشين يكسرون أذرع تلاميذهم، وآباء وأمهات متوحشين يضربون أبناءهم حتى الموت، وإخوة متوحشين يقتلون شقيقاتهم وضباط شرطة متوحشين يقتلون المواطنين فى الشوارع، وأصبحت الدولة ترعى طقوس حمل الأكفان التى يذهب بها المطلوبون للثأر التماسا لعفو الطالبين عنهم، وبهذا أصبحت الدولة تعترف بالثأر وتراه حقا للمطالبين به إن شاؤوا أخذوا وإن شاؤوا تنازلوا، والمعنى الضمنى لهذا الاعتراف هو أن الدولة أصبحت تشجع إحياء الأعراف والتقاليد القديمة وتعمل بها بدلا من القانون، أى أن الدولة تتخلى عن وظيفتها وتتنازل عنها لرؤساء القبائل والعائلات. هكذا تتسع دائرة العنف كما قلت، وتجد لها سندا فى بعض مؤسسات الدولة كما قلت، وفى الجماعات الدينية التى ترفع شعار الجهاد وتمارس به الإرهاب، وترفع شعار تطبيق الشريعة ليصبح الإسلام جلدا ورجما وتقطيع أيد وأرجل.

هكذا يجب أن ننظر فى قضية جلد الأطباء المصريين فى السعودية. إنها ليست حادثة ولكن مناخ عام نشارك فى صنعه حين يخدعنا الإرهابيون فنعتبر إرهابهم جهادا وحين يخدعنا المتاجرون بالدين فيرفعون شعارهم «الإسلام هو الحل» لا يقصدون به إلا تحويل المدينة إلى ساحات وتجمعات لتقطيع الأيدى والرقاب.. لا، فالعقيدة أرحم من ذلك بكثير، والفضيلة أجمل وأنبل، والنظام الاجتماعى لا يقوم على العنف والإرهاب والتخويف، بل يقوم على تثقيف العقل وتربية الضمير وإحياء القدرات والملكات التى يستطيع بها الإنسان أن يتغلب على غرائزه وأن ينحاز إلى جانب الحق والخير والجمال دون أن يكون خائفا أو مضطرا، بل هو يقف إلى جانب هذه القيم النبيلة حتى وجد نفسه محاطا بالخطر معرضا للاضطهاد.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة