صندوق أسرار جدتى

الأربعاء، 31 ديسمبر 2008 12:48 ص
صندوق أسرار جدتى لو لم يكن الموت نهاية الحياة لما كانت الحياة تتمتع بهذا النوع من القداسة
بقلم أسماء صبّاح

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
اليوم بالذات قررت أن أفتح الصندوق الذى تركته لى جدتى، لطالما تمنيت بعد موتها المؤلم والمفاجئ بالنسبة لى أن يأتى اليوم الذى أقرر فيه أن أقتحم عالمها وهى ميِّتة، من خلال كل ما تركت لى، كما اقتحمته سابقاً وهى حية تلتقط أنفاسها بصعوبة واضحة جلية، أردت أن أفتح الصندوق بطقوس معينة واحترام لها ولأسرارها، فكرت كثيراً فى الطريقة والوقت المناسب، وقررت أن أفتح الصندوق ليلة اكتمال البدر، وأمام النافذة التى كانت جدتى من خلالها تراقب الدنيا بما فيها، عندما كانت تجلس إلى هذه النافذة، كانت تسرح بعيدا، أقول لها ما الذى يجعلك هكذا؟ إلى ماذا تنظرين وما الذى يشدك بهذه الطريقة؟
تجيبنى، أنظرى كيف تتساقط أشعة الشمس على زجاج نوافذ الجيران، تقتحم هذه الخيوط الذهبية المنازل دون إذن أصحابها لتوقظ الأطفال والنساء والرجال وحتى كبار السن الذين يشعرون بوعكات صحية مفاجئة، ونقاط المطر التى تتساقط مع الشمس تتكاتف مع بعضها مشكلة قوس قزح هناك على الجبل البعيد، على ذلك الجبل كنت أنا وجدك نقضى أياماً وأياماً نجلب الحطب، الذى نستعمله من أجل الطهى والغسيل وباقى الأعمال المنزلية.

لى ذكريات كثيرة مع الشمس والضباب والغيوم وقوس قزح وشقائق النعمان والنرجس البرى، الذى ما زالت رائحته تملأ رئتاى، أما النجوم والقمر والبرد والثلوج فلهم أيضا قصص أخرى فى حياتى.

توقفت لحظات عن الكلام، كان لصمتها صوت ينم عن تفكير عميق، كانت رائعة بصمتها وكلامها، سألتها: جدتى أتحبين الحياة؟ بقيت صامتة، لدرجة أننى اعتقدت أنها لم تسمع كلامى، و لكنها أجابت: الحياة نعمة والموت كذلك، كما الصمت والكلام، فإننا يا صغيرتى لا نتلذذ بالحياة إلا إذا كنا نعرف بأنها ستنتهى يوماً، وبذلك فإننا نستغل كل دقيقة من دقائق الحياة لنعيش الأجمل والأروع.

لو لم يكن الموت نهاية الحياة لما كانت الحياة تتمتع بهذا النوع من القداسة لدينا.
وأخيراً اتخذت القرار وفتحت الصندوق، كان فيه الكثير من الملابس القديمة والجديدة، ملابس من كل الألوان والقصات، ملابس لم أر مثلها فى حياتى، وأظن أن جدتى لم ترتديها يوماً، هناك أيضا مجموعة رسائل قديمة، ودفاتر مذكرات عديدة، ولوحة فنية مرسومة بالألوان الزيتية موقعة باسم (صديق وفى جداً)، وعلبة كحل عربى، وزجاجة عطر من ديور، و إسطوانات موسيقية قديمة، رغبت بالبداية قراءة المذكرات ثم الرسائل وبعد ذلك تجربة الملابس الموجودة، وسماع الموسيقى التى تركتها لى.

أخذت أول دفتر من دفاتر مذكراتها، وبدأت بقراءة الصفحة الأولى:
السابع من "تموز" يوليو ............
اليوم التقيت شاباً أعجبنى، كان يجلس على كرسى خشبى قريبا من شاطئ البحر، كان يحدق فى الفضاء طوال الوقت، كان صامتا،وأنفاسه أكاد أسمعها، شارد الذهن، وكأنه فى عالم لا أعرف عنه شيئا، حاولت الاقتراب منه للفت انتباهه، ولكن محاولتى باءت بالفشل، قلت فى نفسى لربما يكون هذا الغريب القريب باحث عن الذات أو فاقد لشىء لا أعرفه ولكنه فى كل الأحوال يشدنى إليه كما لم يفعل أحد من قبل.

بحثت فيما معى من أشياء قد تجذب اهتمام رجل مثل هذا، الذى يكاد يكون غير موجود أو متلاشياً بين الفضاء والبحر والسماء، لم أجد إلا صديقتى التى كانت تجلس بقربى، سألتها برأيك ما الذى قد يجذب رجلاً مثل هذا قالت: لديه جريدة قلت: ماذا يعنى هذا؟ قالت لنستعر جريدته.

وهكذا تعرفت على جدك (إننى الآن أتوجه إليك بالكلام لأننى عرفت بأنك سترى النور يوما، وبأننا سنكون مقربتان، وكنت قد اتخذت قرارا من قبل بأننى سأترك لك كل ما أملك من كلمات ودفاتر وأسرار)، طلبت منه الجريدة، قدمها لى مع ابتسامة تنم عن ألم عميق وضياع لم أره يرتسم على وجه أحد قبلا.

كان جدك لماحا، عرف أننى أحاول الاقتراب منه بطلبى للجريدة، نظر إلى وسألنى: من أى بلد أنت؟ أربكنى سؤاله حقا فأنا مع أننى كنت ما أزال صغيرة فى العمر إلا أن لهذا السؤال عندى جواب طويل عريض، قلت له أنا من كوكب الأرض، وإذا سألتنى: من أنا؟ سأقول: إنسانة من نسل آدم وحواء، وعن ثقافتى: فسأجيب بأنها خليط من الجميع وأتبع ما يعجبنى منها، أقرأ ما أشاء وأفكر فى بحر الكلمات، أحلم كثيرا ولا يهمنى أن تتحول الأحلام إلى حقائق.

كانت علامات الدهشة بادية على وجه الشاب الغريب الذى لم أعرف اسمه بعد، ولكننى أظن أننى سأراه غداً وفى نفس المكان فقد حصلت على ما أريد وأصبح متعلقاً بأفكارى وأحلامى الغامضة، أنا متأكدة من أنه سيعود غداً وسأخبرك بالتفاصيل.
جدتك سارة
تصبحين على حلم وخيال وجنة صغيرة مبنية على حواف الذاكرة المهمّشة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة