غريب أمر هذا البلد، الذى بقدر ما تحبه.. تكرهه، على الأقل هذا شعور خاص بى، لا أملك قسوة ولا جرأة تعميمه. عادى جداً.. أقرأ الجرائد اليومية وأطالع الفضائيات وأتواصل مع ناس هذا البلد، فأحبط لدرجة الغثيان.. ثم أعتاد كل ما هو شاذ يحدث فى مجتمعنا، لدرجة تجعلنى كثيرا ما أتساءل بمنتهى الصدق: ما جدوى كل ما يكتب، ما جدوى عملى أصلا فى الصحافة؟ وأكاد أصدق صوتى المتكرر داخلى بسلبية ملحة: «ولا حاجة ح تتغير، ما نعيشه الآن ينطبق عليه فلسفة خبط الدماغ فى الحيط.. إلخ»!
كثيرة هى المونولوجات المشابهة التى تقتحمنى، وكلما بلغت أشدها معى، وقربتنى من اتخاذ قرارى بالانسحاب أو العزلة.. أو لأكون أكثر صدقا.. قرارى بالهروب من مجرد الشعور بالانخراط فيما سيسبب لى ألما، لم أعد قادرة على تحمله أو حتى تبديله!!! إذ بى أفاجأ بإشارات ما، يأتينى بها الله، بالطبع لا لتعديل قرارى، لأن القرار فى حد ذاته أمر ذاتى لا أهمية له فى سياقنا هذا، لكن الأهم هو تلك الإشارات العبقرية التى تجعلنى أشعر، كم أنا صغيرة وضعيفة ومتكاسلة، إشارات تساهم فى شعورى بالخجل من نفسى، «الإشارات دائما.. هى مصادفات ببشر»، وما أحلاهم وأروعهم من بشر، يعينوننى على مواصلة حب هذا المجتمع والتعلق به، بقدر ما أنفر منه ومن سلبياته أحيانا كثيرة، بالطبع لا أتحدث عن بديهية حب الأهل والأصدقاء.. لكننى أتحدث عن ناس أقابلهم صدفة، أو حتى بشر أسمع بهم ولم أرهم.. ولكن تجمعهم صفة ما مشتركة، هى «القدرة على العطاء».. ليس مالا.. لأن عطاء المال أسهل أنواع العطاءات على الإطلاق.. لكننى أتحدث عن عطاء المجهود.. الوقت.. الفكر.. الخبرة.. الحلم.. الدعم.. المساندة.. الحنان.. التواصل.. إلخ.
«عبير عبدالعزيز» كاتبة للأطفال وشاعرة.. التقيتها مرة واحدة فى حياتى.. بالأمس.. وكأنها اكتشاف.. ما كل هذا الأمل، ما مصدره بداخلها؟ ما هذه القدرة على التحدى بالحلم؟ ما كل هذا التفاؤل بالمستقبل؟ تتحدث عن ورش الكتابة التى تحلم بإعدادها للأطفال فى كل مدارس محافظات مصر.. لديها براح فى الحكى رائع، جعلنى ألتقط بعض جمالها فى الذاكرة دون قصد، مثل: «لو قدرت أؤثر فى حياتى كلها على 50 طفل بس، يبقى أنا كده عملت إنجاز!»، وقالت: «أجمل شىء إنك تعرفى تبنى لهدفك ولحلمك.. والأجمل إن الناس تصدق حلمك وتبنى معاك الحلم».
ربما يجد البعض أن ما تقوله عبير آراء عادية.. لكن الطريقة التى تقول بها هذا الكلام، بهذا الحماس.. بهذا الصدق.. بهذه الروح.. من المؤكد تجعله غير عادى على الإطلاق. السؤال: هل ما يستوقفنى عند هؤلاء البشر الرائعين.. أن أصدق حماسهم، ويصلنى صدقهم؟! كنت أنوى الكتابة عن عبير فقط، ولكن عندما ذكرت روعة البشر وصدقهم وحماسهم غير المشروط، وقدرتهم على العطاء لهذا المجتمع وناسه بلا حدود.. استدعت ذاكرتى أشخاصا رائعين قابلتهم يوما ما، وأعانونى على الحياة وعلى تصديق أنه مازال هناك أمل -فعلوها بطريقتهم ودون قصد.. وهنا تكمن روعتهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة