فاطمة ناعوت

لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ

الجمعة، 26 ديسمبر 2008 01:07 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يحكى لنا التاريخُ أن امرأةً عربيةً من مدينة «زبطرة» أسَرَها الرومُ، وحينما همَّ أحدُهم بإهانتها صرختْ بملء صوتها وقلبها «وامعتصماه!».

وكأنما بصرختها اليائسة تلك تستنجدُ برجلٍ ذى بأس يبعد عنها أميالا. هو أبو إسحق المعتصم، ثامن الخلفاء الراشدين، الذى بنى مدينة «سُرَّ مَنْ رأى»، المعروفة بـ سامرّا. ويقول التاريخُ إن المعتصمَ ما أن وصله صوتُها المستغيث، وكان فى مجلسه فى يده قدحٌ يهمُّ أن يشربه، حتى انتفضَ يهتفُ: «لبيكِ لبيك!»، وترك القدحَ قائلا: لا شربتُه إلا بعد فَكّ أسْرِ الشريفة! ثم نادى جُندَه واستنفرهم للحرب. قاد جيشه وفتح عمورية وأذاق الرومَ ما لا يُنسى. ثم جاء بآسر الأسيرة وضربَ عنقه. وبعدها قال للساقى: آتنى بكأسى المختوم، الآن طابَ شُرْبُ الشراب. وفى ذلك كتبَ أبوتمام بائيتَه الفاتنة وخلّد الواقعةَ فى بيت يقول:

لبيّتَ صوتًا زِبَطْريًا هَرَقْتَ لَهُ.. كَأْسَ الْكَرَى وَرُضَابَ الْخُرّدِ الْعُرُبِ
ورغم أن الواقعةَ تلك قد وردتْ فى كتبِ مؤرخين ثقاة مثل «الكامل فى التاريخ» لابن أثير، و«مآثرُ الإنافة» للقلقشندى، «وشذراتُ الذهب» لابن العماد الحنبلى، بروايات عدة، منها أن صوتَ المرأة قد أتاه وهو نائم، ومنها أنه وصله وهو فى مجلس شراب، ومنها الميتافيزيقيّ، كأن سمعَ المعتصمُ صوتَ المستغيثة عن بُعد كوحىّ أو كهاتف ذهنىّ، ومنها المنطقىّ، بأن نداءها وصله عبر ناقلين، إلا أن بعض العلماء قد كذّبَ الحكايةَ وأنكرها. وسواءٌ عندى صِدْقُها أم كَذِبُها. فأنا لا أصدق كتبَ التاريخ بوجه عام. أصدّقُ، وحسب، ما أودُّ أن أصدِّقَه بما يتفق وحدْسى حينا، وأحيانا بما يتفق مع فانتازياى وخيالى ورغبتى الخاصة فى تجميل العالم ولو بالزَّيف والخيال. فأنا أتوقُ للجمال فى شتى منابعه، البصرية والسمعية والفكرية والسلوكية، ولذلك كثيرا ما أخدعُ نفسى بحكايا أصدِّقُها لأنها تروى نبتةَ الجَمال الظمأى فى روحى. ولو كانت حكايا من الأساطير القديمة أو حتى من كتب حواديت الجِنيّات fairy tales. ولذلك من حقى أن أنتقى من كتب التاريخ، الكاذبة غالبا، ما يروق لى، وأطَّرِح منها ما لا يروقنى. و أنا أودُّ أن أصدق تلك الحكاية المعتصمية كيما يرتاح قلبى أن بتاريخنا أشياءَ رفيعةً وأحداثا يُفخَر بها.

أتقوّى بتلك الواقعةِ الجميلة الماضية، كلما صدمتنى واقعةٌ قبيحة راهنة. كأن تستنجد امرأةٌ بمغيثٍ فلا تجد إلا وجوها جامدةً بلهاء تحدّق فيها بتلمّظ المُتشفّى. وبعد ذبح الذبيحة، تنهالُ الألسنُ الوقحة لتنال ما تبقى من جثمانها باللعق والنهش واللوْك المقزز. قالت نهى رشدى، التى استنجدت بالمارّة فى رابعة النهار لينصروها على الحقير الذى تحرّش بها جسديا: «أنا مصدومة فى الناس!!» لأن لا أحدَ ساندها، ولا أحدَ بصقَ فى وجه الرقيع، ولا أحدَ رفع كفَّه وصفعه، ولا أحدَ حتى حال دون ما حدث بكلمة، هى عند الله أضعفُ الإيمان. بل، على النقيض من كل ذلك، تناول الناسُ البنتَ باللوم والتقريع. محاولين إثناءها عن الذود عن كرامتها والأخذ بثأرها. «متبهدليش نفسك! شوفى انتى لابسة ايه! بس لو كنتى محجبة! ايه اللى مخرجك من بيتكو؟» ومثل تلك الكلمات الانهزامية فقيرة الروح، التى أفضلُ منها الخَرَس.

ولأننى أعتبرُ، وليقلْ مَن شاء بجنونى، أن سقوطَ امرأةٍ بين براثن رجلٍ لا يقلُّ خطرا عن سقوط دولة فى يد عدو، وأن ضياعَ شرف امرأةٍ وكرامتها على مشهد ومسمع السابلة لا يقلُّ جللا عن ضياع الأندلس من بين يدى العرب، لذا فسأسوق لكم بعض أبيات من نونية أبى البقاء بن شريف الرندى، التى قالها فى رثاء الأندلس:
كَمْ يستغيث بنا المستضعفون وهُم/ قتلى وأسرى فما يهتّزُ إنسانُ!
ألا نفوسٌ أبيّاتٌ لها هِمَمٌ/ أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ؟
وطفلةٌ مثل حُسْنِ الشمسِ إذ طَلَعَتْ/ كـأنـما هى يـاقـوتٌ ومـرجـانُ
يـقودُها الـعلجُ لـلمكروهِ مكرهةً/ والـعينُ بـاكيةٌ والـقلبُ حيرانُ
لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ من كَمَدٍ/ إنْ كان فى القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
وعلى الجانب الآخر، مرَّ بخاطرى الآن سؤالٌ خبيث: هل ستجد نهى رجلا يقدّر وعيَها بحقوقِها ويرغبُ فى الزواج بها؟ أم سيخافُها الشبابُ كونها فتاةً «تعرف حقوقها»، وهى سمةٌ غيرُ مرغوبةٍ فى الزوجة العربية، من وجهة نظر بعض الرجال؟









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة