لو سألت رجل الشارع، أو شخصاً يهتم بالشأن العام: ما اليوم الذى تترقبه فى كل دورة برلمانية والتى تستمر ما يقرب من 8 شهور، سيجيب على الفور: «اليوم الذى سيقف فيه المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات أمام المجلس ليقدم تقريره حول الحساب الختامى للموازنة العامة للدولة 2007/2008، وتقييم عمل الهيئات الاقتصادية خلال العام الماضى».
لماذا يكتسب هذا اليوم أهميته؟
لأنه يكشف المسكوت عنه فى العديد من قطاعات الدولة فيما يتعلق بأوجه الإنفاق، والتى غالباً ما تقترن بدرجة فساد يكشف عنها الملط، ولا يصمت عليها.
ماذا يكون رد فعل نواب المجلس، والحكومة؟
فرحاً من نواب المعارضة، فهى ترى الرجل كأنه يتحدث بلسانها، وقيمة حديثه أنه مزود بإحصاءات ووقائع، وغيظاً من الحكومة لأنها تشعر كأن الرجل لا يعمل فى دولابها، ويغرد خارج سربها، والكل يتذكر ما حدث فى يناير الماضى حينما رد الدكتور يوسف بطرس غالى وزير المالية على بيانه: «إننا نناقش تقارير الجهاز المركزى للمحاسبات، وليس ممثلاً لصندوق النقد الدولى، وإذا جاء رئيس الجهاز ليناقشنا فى تقرير البنك الدولى فنحن ناقشنا البنك، ولو كنت أعلم أننى جئت لمناقشة تقرير البنك الدولى، كنت أحضرت الملاحظات التى رددتها».
بين الحالتين.. فرح المعارضة.. وغيظ الحكومة.. يترقب الكل، حضور الملط بعد أسابيع قليلة إلى المجلس ليدلو بدلوه.. فهل سيضيف جديدا عما قاله فى يناير الماضى، أو بمعنى آخر.. هل سنرى من خلال بيانه أداء حكوميا مختلفاً، أبسط ما فيه هو إزالة الثغرات التى تحدث عنها من قبل.. فلنتذكر حتى نستطيع المقارنة.
23 ملاحظة قالها الملط، كانت أبرزها، أن الإنجازات الاقتصادية التى حققتها حكومة نظيف لم تنعكس على الأغلبية العظمى من المواطنين، ولم يشعر بها البسطاء والفقراء، ومحدودو الدخل، وأن معظم هذه الإنجازات لا يتم توزيعها بشكل عادل، وأشار إلى أن هناك فجوة بين الاستخدامات والموارد الفعلية بمقدار 62.2 مليار جنيه خلال العام 2006/2007، وعدم قيام الحكومة بسداد التزامات واجبة السداد بلغت 31.4 مليار جنيه، واستمرار زيادة فى رصيد المتأخرات المستحقة للحكومة وبلغت 99.8 مليار جنيه وتشمل ضرائب وجمارك وغيرها، واستمرار الزيادة الكبيرة والمستمرة فى الدين العام وبلغت 637.4 مليار جنيه بنسبة 87.2 % من الناتج المحلى، فضلا عن عبء خدمة الدين العام الحكومى الداخلى والخارجى الذى بلغ 53.5 مليار جنيه، وبلغ متوسط نصيب الفرد من إجمالى أعباء خدمة الدين 691.8 جنيه، وارتفاع قيمة العجز فى الميزان التجارى، وضعف قيمة التبادل التجارى السلعى لمصر مع الدول العربية.
وأشار الملط إلى وجود مشاكل ومعوقات تحد من فاعلية الجهود المبذولة لتحسين مناخ الاستثمار، أبرزها قصور نظام المعلومات، وصعوبة الحصول على بيانات ومعلومات دقيقة تتسم بالشفافية، وزيادة تدفق استثمارات المصريين إلى الخارج وبلغت 1093 مليون دولار عام 2006/2007، وارتفاع أسعار المجموعات الرئيسية للسلع والخدمات بنسبة تتراوح بين 46 و60 % بالنسبة للخضر والفاكهة، واتجاه البعض إلى تعطيش الأسواق، وأشار الملط إلى تفشى ظاهرة تهريب السلع فى الأسواق، وفشل الحكومة فى تطوير التعليم، والارتقاء بالرعاية الصحية للمواطنين، وتقديم الخدمات العامة والاجتماعية والجماهيرية، وعدم كفاية وسلامة الدراسات الأولية عن المشروعات فيما يعد إهدارا للمال العام، وعدم الاستخدام الأمثل للقروض والمنح الخارجية، والتسيب والخلل فى المحليات الذى يصل إلى حد الفساد، خاصة فى قطاع الإسكان والبناء، ومخالفات فى حسابات الصناديق الخاصة، واستخدام جانب كبير من أموالها فى غير الأغراض المخصصة، واختلاف البيانات الاقتصادية الصادرة عن الأجهزة الحكومية إلى درجة التضارب فيما بينها، وأدى كل ذلك إلى أزمة ثقة بين المواطنين والحكومة لعدم وجود لغة واحدة للحكومة، وإنما لغات مختلفة فى ضوء غياب التنسيق والأداء الجماعى.
تلك هى ملاحظات الملط التى كانت مطلع العام الذى نودعه، المطلوب أن نتذكرها، لنعرف منه أيضا بعد أسابيع ماذا فعلت الحكومة من جهود لإزالتها..؟ وهل أصبح الملط بتقاريره مجرد تنفيس للمعارضة والحكومة فى آن واحد؟، وهل تقارير الجهاز بذلك أصبحت مجرد أوراق مملوءة بالحبر؟ وهل هناك «خيار وفقوس» فى عرض هذه التقارير، وتفعيلها؟.
أسئلة متشابكة، تقتحمها وقائع متعددة، وآراء مختلفة، وصرخات من نواب فى البرلمان، أبوالعز الحريرى النائب البرلمانى السابق، يرى أن الملط أمام المجلس لا يقول كلاما «يودى فى داهية»، لماذا؟، لأنه يتحدث عن موضوعات لا يعرف أحد تفاصيلها، بمعنى أن تقاريره وما تحتويه لا يعرفها أحد، ولو عرفوها سيقولون كلاما أكثر مما يقوله، ويشير إلى أن التقارير التى تناقش لا تشكل غالبا خطرا على الحكومة.
كما أن التقارير التى تناقش أداء الحكومة تصل منها نسخة أو اثنتان إلى رئيس مجلس الشعب ويركنها فى مكتبه، ولا يودعها فى مكتبة المجلس إلا بعد فترة طويلة تكون بعد الدورة البرلمانية، وبالتالى النظر إليها، أو التعامل معها يكون مجرد أرشيف ليس أكثر، ويضيف أبوالعز أن التقارير التى يناقشها مجلس الشعب لا تشكل خطرا على الحكومة.. لماذا؟ يجيب النائب المستقل جمال زهران: «المجلس يخفى تقارير الجهاز، ولا يخرج منها إلا الذى يريده، فتقرير احتكار الحديد سيخرج فى حالة أن يكون هناك عدم رضا حكومى على أحمد عز».
كلام زهران والحريرى يقودنا إلى ما يمكن تسميته بـ«المناطق الممنوعة» فى مناقشة تقارير الجهاز المركزى، أى يعدها الجهاز لكنها لا ترى النور فى مناقشات النواب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وزارة الداخلية وقطاعاتها المختلفة، ووزارة البترول والهيئات التابعة لها، ووزارة الإعلام والهيئات التابعة لها، ووزارة الخارجية، وهيئة قناة السويس.. هذه الجهات هى حسب رأى نواب برلمانيين فوق المحاسبة، يدخل معها المناطق التى تمس أعمالاً ترتبط بنشاطات لمسئولين ورجال أعمال بارزين فى الدولة، مثل منطقة خليج السويس، وهيئة التنمية الزراعية، بالإضافة إلى بنك الاستثمار القومى.. والسؤال.. لماذا؟
الدكتور فتحى سرور رئيس مجلس الشعب يتحمل مسئولية ذلك.. هكذا يرى أبوالعز الحريرى.. لكنه يقول إن تركيبة النظام السياسى ككل هى التى تسمح له بذلك، وتدفعه إلى اختيار هذا، وترك ذاك، كلام الحريرى يفتح القضية فى وجه آخر، وهو.. هل يحصل نواب المجلس على تقارير الجهاز فى موعدها الطبيعى لمناقشتها، ومعرفة أوجه الاستفادة منها؟
الإجابة تأتى من النائب عباس عبدالعزيز «إخوان» بقوله إنه يجد صعوبة فى الحصول على تقارير الجهاز المركزى الحديثة، ويشير إلى أنه مثلا لا يجد فى مكتبة البرلمان إلا تقارير 30 يونيو 2006، أما التقارير الأحدث فلا يحصل عليها أبدا، ويؤكد أن هذا يكون عائقا أمام العمل الرقابى، من تقديم طلبات إحاطة واستجوابات وخلافه، فتقارير الجهاز تكون مستندا مهما فى ذلك لأنها عبارة عن حقائق ومعلومات موثقة، ويقول إن الحكومة بذلك تستطيع الإفلات من المحاسبة، لأنها تقول إن هذه الأخطاء التى جاءت فى التقارير القديمة تمت معالجتها وتصويبها، ويكشف أنه مثلا طلب من الأمانة العامة بالمجلس عدة تقارير حول جميع الهيئات الاقتصادية البالغ عددها 49 هيئة، وعن شركات الغزل والنسيج، والبنوك، ومشروعات توشكى وفوسفات أبوطرطور، وفحم المغارة، ولم يحصل على أى تقرير منها حتى الآن.
التقارير القديمة التى يناقشها البرلمان دفعت نائبا بوزن الدكتور زكريا عزمى إلى القول وقت مناقشة تقرير الجهاز حول الإدارة المحلية والمجالس المحلية لعام 2006، إن مناقشة تقارير قديمة هو إهدار لوقت المجلس، لكن النائب علاء عبدالمنعم يرى أنها مسألة متعمدة وذلك حتى تضيع المسئولية، بحيث يكون المسئول فى الهيئة أو الشركة التى وقعت فى عهده المخالفة غير موجود، وكذلك الوزير. مرة أخرى يحكى جمال زهران قصة تصب فى سكة مسئولية فتحى سرور عن إخفاء التقارير قائلا: بحثت عن تقارير الجهاز حول عدد من الموضوعات مثل الصندوق الاجتماعى وتوشكى، والحديد والصلب، فوجدت تقارير قديمة، فطلبت من الأمانة العامة، ولم أحصل على رد، وقابلت جودت الملط فأخبرنى أنه قام بإرسالها إلى مجلس الشعب، ويجب أن أطلبها من الدكتور سرور، وإن لم تكن موجودة فيجب أن يخبره الدكتور سرور بطلب كتابى يطلب فيه طباعتها مرة أخرى، ولما أخبرت الدكتور سرور عبر مذكرة لم يرد علىّ.
النائب محمد عبدالعليم داود يرى أن لجان مجلس الشعب تحولت إلى ثلاجات لدفن تقارير الجهاز، ويقول إن رؤساء اللجان يقومون بعمليات انتقائية للتقارير التى تتم مناقشتها بحيث يضع رئيس اللجنة حسابات مصالحه، فلا يمكن أن يقوم رئيس لجنة له أعمال مع قطاع الإسكان بمناقشة تقارير تضرب مصالحه معه. هى إذاً سياسة «الخيار والفقوس» التى تسير وفقا لمعادلة «ناقشوا هذا.. واتركوا ذاك»، ويترتب على ذلك، فرح كبير من نواب المعارضة، واهتمام لافت من الشارع السياسى بما يقوله جودت الملط أمام المجلس، فما يقوله لا يرونه فى تقارير، رغم أنها تقدم إلى البرلمان حسب قوله هو: «أرسل إلى المجلس 150 تقريرا سنويا فى عدد صفحات يصل عددها نحو 1500 صفحة»، صفحات فى تقارير يتم الإنفاق عليها سنويا ملايين الجنيهات لكنها فى النهاية تكون حبراً على ورق.
لمعلوماتك...
◄12 ألف موظف فى الجهاز المركزى للمحاسبات
البترول.. الداخلية.. الإعلام.. الخارجية وقناة السويس.. خارج الرقابة البرلمانية
لماذا تحول الجهاز المركزى إلى نمر من ورق؟
الجمعة، 26 ديسمبر 2008 01:46 ص
جودت الملط فى إحدى جلسات البرلمان
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة