بوش: اسمع!.. أعلم كم أنتم مشغولون الآن.. إلى آخره.. لكننى أريد منكم بأسرع ما يمكن أن تراجعوا كل شىء كل شىء.. ابحثوا لعل صدام فعل هذا، ابحثوا لعل له صلة من أى نوع...
كلارك: ولكن سيادةَ الرئيس القاعدة هى من فعل هذا
بوش: أعلم هذا.. أعلم هذا.. ولكن.. ابحث فيما إذا كان صدام متورطاً فقط ابحث.. أريد أن أعرف كل خيط
كلارك: بكل تأكيد سنبحث من جديد
عندما غادر الرئيس حدّقت إحداهن فى كلارك متمتمةً: «يا إلهى! لقد تمكن منه وولفوفيتز»
فأما بوش فهو بوش الصغير (مقاس 25) وأما كلارك فهو ريتشارد كلارك، رجل البيت الأبيض لمكافحة الإرهاب فى عهد بل كلينتون ولعامين فى عهد ذلك الصغير، هو أيضاً الرجل الذى تجرأ فتبوأ فحكم أمريكا بحكم الأمر الواقع يوم 11 سبتمبر 2001 فى محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عندما هرول الرئيس ونائبه ومستشارته للأمن القومى ومساعدوهم إلى المخابئ.
وأما هذا المشهد الذى حكاه لى ريتشارد كلارك على الغداء فى أحد مطاعم واشنطن قبل أعوام قليلة فقد وقع فى إحدى غرف البيت الأبيض مساء اليوم التالى للأحداث المروّعة.
بقلمه أيضاً يرسم كلارك المشهد ذاته فى كتابه Against All Enemies (ضد كل الأعداء). أخيراً انبثق الرئيس من مخبئه فعاد إلى البيت الأبيض وهو فى حيص بيص لا يدرى ما عساه يفعل، أخذ يحوم حول غرفة السيطرة Situation Room حيث كان كلارك يتصل عن طريق الفيديو بالوزارات السيادية والقطاعات الحيوية للدولة، عندما خرج هذا أخذه الرئيس من يديه مع عدد آخر من المساعدين إلى داخل الغرفة مرة أخرى وأغلق الباب، كانت أول قشة فى نعش العراق تتحول الآن إلى أول مسمار.
ولأنه نموذج للموظف الكفء الذى يحترم تسلسل القيادة انحنى كلارك لأول وهلة أمام وقع المفاجأة فاستقبل الأوامر فى طاعة وهو مذهول: «بكل تأكيد، سنبحث من جديد»، ثم سرعان ما أفاق فأضاف دون أن يخرج عن آداب الاحترام: «و لكن أنت تعرف أننا بحثنا مراراً عن أى صلة تربط تنظيم القاعدة بأى دولة فلم نجد لها علاقة بالعراق، ربما يكون هناك رابط ضئيل بإيران وباكستان والسعودية واليمن». وهنا قاطعه الرئيس قائلاً: «ركز على العراق، ركز على صدام» ثم غادر ملتوياً.
وأما وولفوفيتز فهو بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع وقتها وعاشق إسرائيل المتطرف، وفقاً لكلارك كان موقف هذا (ملتحماً بموقف رئيسه المباشر، أستاذ التضليل السياسى والإعلامى، دونالد رامسفيلد) صباح الثانى عشر من سبتمبر يدفع بقوة فى اتجاه العراق بعكس ما هو متوفر من أدلة ومعلومات استخبارية لا تشير إلى العراق من قريب أو من بعيد.
عندما عبر وولفوفيتز عن هذا الموقف بعد أربع وعشرين ساعة فقط على ذلك الحدث الهائل قفزت إلى ذهن كلارك فكرة بعينها: «أتانى فلاش باك من أبريل (2001) عندما عقدنا اجتماعاً دعوت خلاله إلى اتخاذ إجراء ضد تنظيم القاعدة، ولكن وولفوفيتز قال إن التركيز على القاعدة خطأ وإنه علينا أن نتتبع الإرهاب الذى يرعاه العراق، رفض أطروحتى وأطروحة وكالة الاستخبارات المركزية (سى آى إيه) بأن الولايات المتحدة لم تتعرض لأى إرهاب يرعاه العراق».
بحلول عصر الأربعاء، الثانى عشر من سبتمبر 2001، كان وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، يتحدث عن «توسيع أهداف الرد» كى تشمل العراق، أو بتعبيره بلغته الخاصة getting Iraq (النيْل من العراق)، فى عكس هذا الاتجاه كان يقف وزير الخارجية، كولن باول، ونائبه ريتشارد أرميتاتج، وهما يحثان على التركيز على القاعدة. تنفس كلارك الصعداء عندما لمس بعض التأييد وسط إحساس كان قد بدأ يتسرب إليه كإحساس الأطرش فى الزفة، فى تلك اللحظة عبر عن موقفه ساخراً فقال: «أن نذهب الآن لقصف العراق بعد أن هاجمتنا القاعدة سيكون كما لو كنا غزونا المكسيك بعد أن هاجمتنا اليابان فى بيرل هاربر».
لكنّ الواقع أحياناً يكون أكثر سخرية من الخيال.. هناك نكتة مصرية تقول إن «واحد بلدياتنا ضاع منه جنيه فى شارع ضلمة راح يدوّر عليه فى شارع منوّر». وهذا بعينه هو ما حدث على لسان رامسفيلد بعد ساعات قليلة فى ذلك اليوم الحافل الذى شهد تقرير مصير العراق خلف أبواب مغلقة: «لا توجد فى أفغانستان أهداف جيدة للقصف، ومن ثم ينبغى علينا أن نقصف العراق لأن به أهداف أفضل».
وهو ما يصل بنا إلى بيت القصيد، وبيت القصيد هنا هو النكتة التى طلع علينا بها بوش فى بداية هذا الشهر أمام كاميرات شبكة تليفزيون إيه بى سى الأمريكية قبل رحيله عنا، يا ترى ما هو أكثر شىء يندم عليه بوش فى فترتيه الرئاسيتين؟ يقول: «أكثر شىء أنا نادم عليه هو فشل الاستخبارات فيما يتعلق بمسألة العراق».
فإذا كان من الصعب الحكم على النوايا كى نتأكد من مدى صدق الندم فإن من السهل إثبات كذب النصف الثانى من هذا «الاعتراف». الاستخبارات ببساطة لم تفشل، والأدلة على هذا ببساطة لا حصر لها. الذى فشل هو غرور عصابة استغلت حدثاً جللاً لغزو بلد أنهكه الحصار ولم يكن لهذا الغزو أى علاقة بمكافحة الإرهاب ولا بالأخلاقيات ولا حتى بالمصالح الحقيقية للشعب الأمريكى نفسه، الذى فشل هو غرور هذه العصابة فى تقدير أن اختطاف لحظة عاطفية من عمر العالم لن يستطيع الصمود أمام الفطرة، وأنه لا نهاية منطقية له سوى «جزمة» من مقاس 45.
لسنا فى حاجة إلى «ندم» السيد بوش الصغير، لسنا فى حاجة إلى دموع التماسيح، فقناعتنا بأنه ليس كفؤاً للاعتذار، وأنه لا يفقه تماماً ما يقول، وأنه فقد شرعيته من زمن بعيد، وأنه الآن يمثل الماضى على أى حال، منتهى أمله اليوم أن نترك التاريخ يحكم عليه، لحسن حظه أن التاريخ يحفظ من أسماء التافهين والأشرار أكثر مما يحفظ من أسماء العظماء والأخيار، ومن حسن حظنا أننا (والأعمار بيد الله) لن نعيش حتى نقرأ فصلاً فى كتاب التاريخ عن بطولاته، لكنّ ما يثير القرف أننا جميعاً لن نستطيع تحمل تكاليف عدم قراءة مذكراته وأننا سنزداد غيظاً وغثاءً بينما يزداد هو مجداً وثراءً.
نحن فى حاجة إلى اعتذار من نوع مختلف من رجل مختلف، فى هذه اللحظة الزمنية الفارقة، هذه هى فرصة الرئيس الأمريكى المنتخب، باراك أوباما، كى يرتفع إلى مستوى التطلعات التى وصلت به اليوم إلى أعتاب البيت الأبيض. بهذا الطوفان الرومانسى الذى اجتاح أمريكا والعالم حنقاً على الأمس وأملاً فى الغد هو وحده اليوم قادر على تضميد بعض الجراح، مشكلته أنه أحاط نفسه الآن بفريق لا يدعو إلى كثير من التفاؤل وأن ذاكرة الأمم لا تعرف شيئاً اسمه «عفا الله عما سلف»، وهذا هو موضوع المقال القادم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة