رغم أن البابا شنودة يشارك شيخ الأزهر الضحك والابتسام أمام الكاميرات التى ترسم لهما تلك الصورة، والتى تتخذ منها الدولة شعارا للوحدة الوطنية، وكارت تأكيد تظهره وقت اللزوم فى وجه كل من يتهمها بالتقصير فى حق الأقباط، أو عدم الجدية فى مواجهة الفتنة الطائفية، ورغم أن البابا يشارك فى تلك الصورة الكوميدية بالمقدار نفسه الذى يشارك به شيخ الأزهر، ورغم أن بطلى الصورة -الشيخ والبابا- يجتهدان فى رسم الابتسامة نفسها، والطريقة نفسها فى إبداء الحرص على احتضان كل طرف للآخر.. رغم كل هذا يبقى البابا شنودة الوجه الأكثر تأثيرا سواء كان ذلك فى الصورة أو فى الواقع، هو الأكثر فاعلية فى الأحداث، والأكثر قدرة على رسم خطوط العلاقة بين المسيحيين والدولة والمسيحيين والمسلمين، ربما يعود ذلك إلى طبيعة ابتسامته الهادئة والواثقة، مقارنة بابتسامة شيخ الأزهر التى تبدو دائما مصنوعة بافتعال، أو لاختلاف علاقة البابا بشعب الكنيسة عن علاقة الشيخ بشعب الأزهر الرسمى منه والغير.
البابا فى تلك العلاقة له من النفوذ والسلطة على شعب الكنيسة، ما لا يملك شيخ الأزهر ربعه على الشعب المسلم، البابا يحظى باحترام شعب كنيسته وكلمته عليا ومسموعة يتقبلها المسيحيون وكأنها وحى من السماء، أما شيخ الأزهر فهو بالنسبة للمسلمين -لأغلبهم على الأرجح- مجرد «عمة» حكومية، يقول ما تقول به الدولة ويأتمر بما تأمر به سياساتها، والاختلاف على شخصيته غالبا ما يصب فى مصلحة أغلبية لا تثق به، وأقلية تطالب فقط باحترامه تقديرا لمكانته كرئيس لأعرق مؤسسة إسلامية لا لشخصه.
بناء على كل ماسبق يمكنك أن تؤسس لفكرة تقول إن البابا شنودة أكثر قدرة من شيخ الأزهر على مواجهة الفتنة الطائفية وإيجاد حلول لها، لأن شعب الكنيسة مهما كانت ثائرته وغضبته، قد يهدأ إذا أمر البابا بذلك، وقد يتمادى فى معركة الفتنة إذا صمت البابا ولم يتكلم، لأن الصمت فى العرف المصرى علامة للرضا.
هذا الصمت ربما يكون خطيئة الكنيسة الكبرى فى مسألة الفتنة الطائفية، تشتعل الفتنة من هنا، وتبدأ الدماء فى الفيضان من الجانبين، فى انتظار تدخل ما يفض الاشتباك.. الجهاز الأمنى ينظم صفوف عساكره فى ساحة الفتنة والقتال ويعيش فترات ترقبه المعهودة ويخشى الاقتراب خوفا من أن يتهمه طرف بالتحيز للطرف الآخر، والأزهر وشيخه أضعف من أن يؤثروا فى الطرف المسلم للفتنة، بل يسهم ضعف الأزهر وشيوخه فى زيادة الاحتقان الطائفى الإسلامى.
يبقى البابا شنودة إذن، ممثل الكنيسة وشعبها وصاحب الكلمة العليا، ينتظر الجميع تدخله، عظته ونصيحته التى ستطفئ نار الكراهية، أو على الأقل تسمح بتدخل صوت العقل للتعامل مع الفتنة الطائفية، فيأتى البابا ليدخل مرحلة من الصمت والهروب يمنحها أحد أفضل الألفاظ الدينية شياكة.. «الاعتكاف».
بشكل مكرر يفعلها البابا شنودة، فى نفس توقيت اشتعال الفتنة يذهب إلى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون ويعلن اعتكافه، مع تبرير ممن حوله بأن البابا لم يعد قادرا على احتمال رؤية نيران الفتنة تأكل عنصرى الأمة، أو ضيقه مما وصل إليه حال شعب الكنيسة.
يصمت البابا ويعتكف دون أن يدرك أن للصمت مئات الرسائل لا يفهم منها المصريون، المسيحيون منهم والمسلمون، سوى رسالة واحدة نحفظها عن ظهر قلب اسمها.. السكوت علامة الرضا.
فى حادث الفتنة الذى اشتعل بسبب «وفاء قسطنطين»، وسالت فيه الدماء وكان البلد على حافة انفجار طائفى قد يؤدى إلى كارثة دموية بآلاف القتلى من هنا ومن هناك، مارس البابا عادته ولم ينس أن يختفى فى الدير معلنا اعتكافه غضبا واحتجاجا على ما يحدث للمسيحيين فى مصر وطلبا للرحمة والمغفرة من الرب، فلم يأت اعتكاف البابا سوى بالمزيد من التوتر خاصة بعد أن امتنع عن إلقاء عظة الأربعاء، وأصبح مفهوما بالإيحاء لدى الجميع أن امتناع البابا عن إلقاء العظة يعنى انضمامه هو الآخر لطابور الغاضبين من الجانب المسيحى، وقتها جاءت له الحشود من كل مكان تنتظره فى مقر البطريركية، لتسمع منه كلمة تهدئ من الغضب وتسكن الخواطر، فوجدوه يخرج من باب خلفى متجهاً إلى دير الأنبا بيشوى فى وادى النطرون، معلناً الاعتكاف هناك، وحين ذاع الخبر بين رواد الكنيسة المنتظرين، تضاعف الغضب وتحول عند بعض الشباب إلى ثورة تمت ترجمتها فيما شاهده الجميع من اشتباك يحدث أمام مقر الكاتدرائية بالعباسية، وتسبب فى اعتقال 13 شابا قبطيا بسبب اشتباكهم مع الأمن، فأشعل البابا الأمور أكثر حينما صرح من مقر اعتكافه بأنه لن يعود إلا إذا أفرج الأمن عن الشباب القبطى والوصول مع الدولة لحل مشاكل الأقباط، وكأنه يعلن بشكل رسمى لشعب الكنيسة أنه غاضب وأن عليهم جميعا أن يغضبوا ويشعلوا نار الفتنة حتى تتم الاستجابة لمطالبهم.
الاعتكاف هو طريقة البابا فى الاحتجاج الصامت، كما يحاول المقربون منه التأكيد على ذلك، لإخفاء حالة الصخب والغضب التى يشعلها البابا شنودة باعتكافه فى أوقات الفتنة الطائفية أو الأزمات التى تواجه الكنيسة مثلما فعل فى بداية عهده مع السادات وكسب تعاطف شعبه حينما اعتكف فى الدير ورفع شعار «ربنا موجود».
إلا أن استراتيجية البابا الاعتكافية تغيرت قليلا فى أحداث فتنة الإسكندرية، فبعد أن ارتفعت نبرة الاتهام الموجهة للبابا بهروبه من مواجهة أزمات شعبه بالاعتكاف، وفى الوقت الذى فعلها البابا واختفى وقت اشتعال نار الفتنة فى الإسكندرية بسبب المسرحية المسيئة للرسول، وفى الوقت الذى أعلن فيه لشيخ الأزهر فى جلسة جمعت بينهما أنه على استعداد لأن يعتذر للمسلمين عن تلك المسرحية، ويوقف آباء كنيسة «مارجرجس» إذا أكدت التحقيقات مسئوليتهم عن تفجر الأزمة، وانتظر المسلمون تحقيقات البابا واعتذاره، فلم يجدوا سوى إعلان يؤكد أن البابا ذهب للاعتكاف بوادى النطرون، فاعتبرها المسلمون إهانة مضاعفة، واعتبرها المسيحيون تشجيعا على المضى قدما، فاشتعلت الفتنة أكثر حتى إنها حصدت أرواحا من هنا وهناك.
ليخرج بعدها البابا مبرئا نفسه بأنه لم يعتكف هروبا وإنما اعتكف بمناسبة أسبوع الآلام، وهو التفسير الذى لم يجد قبولا لدى الجميع، لأن الفتنة وقتها كانت أشد من أن يتذكر أحد وقتها أى نوع من أنواع الاحتفالات.
ربما يرى البابا شنودة ومن معه فى الاعتكاف خلوة مع النفس ونوعا من المراجعة والعلو بشأن البابا عن صغائر الفتنة، وربما يراها المسلمون نوعا من الابتزاز للضغط على الحكومة، وربما تراها الدولة نوعا من لىِّ الذراع تخضع له، غالبا خشية أن يحشر الخارج أنفه، ربما كل ذلك أو غيره، ولكن الأكيد أن الاعتكاف يزيد من اشتعال نار الفتنة سواء كان البابا يرتكبها سهوا أو مع سبق الإصرار والتعصب.