تجمع المئات من المسافرين النوبيين فى محطة السكة الحديد بمدينة الإسكندرية، كانوا يغنون ويتحدثون بلغة قديمة، يستعدون للقيام برحلة طويلة للعودة إلى وطنهم الضائع، ولأنهم يشعرون أنهم منفيون فى بلادهم، فقد قاموا برحلة مدتها 18 ساعة للاحتفال بعيد الأضحى فى النوبة بأقصى صعيد مصر، وهى المنطقة التى تتكون من اتحاد كونفيدرالى واسع من القرى الموجودة على طول ضفاف النيل.
فى عام 1964، غمرت المياه هذه القرى بعد أن أدى بناء السد العالى بأسوان إلى تكوين بحيرة ناصر، والتى تعد أكبر بحيرة صناعية فى العالم. والآن وضعت الحكومة المصرية خططا لتطوير وإحياء المناطق المحيطة بالبحيرة دون الاحتفاظ بمكان لأهل النوبة.
ويرى الناشطون فى مجال الأقليات العرقية أنه لا يوجد عدالة، وأنهم يريدون الأرض المخصصة للقرى أن تكون جديدة حتى يتمكن إخوتهم من العودة من الشتات فى شمال مصر للعيش على ضفاف النيل، وتخصيص القرى التى تم إنشاؤها منذ 44 عاما للأسر المشردة..
ويقول الكاتب النوبى حجاج حسن أدول، الذى أصبح من الداعين إلى إعادة التوطين، إن هذه القرى هى "نوبة مزيفة"، ويضيف: "من أجل استعادة هويتنا وتواصلنا، فنحن فى حاجة إلى أن نعود وأن نزرع جذورنا هناك مرة أخرى".
وكان النوبيون قد حكموا مصر فى عصر الفراعنة، وقامت جيوشهم بطرد الغزاة الليبيين. وهو يتحدثون الآن لغتهم وليس اللغة العربية، ويغنون أغانى خاصة بهم على دقات الطبول. وكان النهر بمثابة شريان حياتهم الاقتصادية، ومنبع الذاكرة والهوية والتقاليد، ووفقا للمعتقدات القديمة، فإنه كان مقصدا لأرواح الملائكة والقديسين.
يصف فكرى الكاشف النيل بأنه بمثابة الأم للنوبيين، والكاشف مغنى نوبى بنى منزلا أعلى سلسلة من التلال بجوار قرية أبو سمبل التى تحمل ذكريات طفولته، وتقف خلف فنائه تماثيل رمسيس الثانى العملاقة، وقد تم نقل هذه الآثار إلى أرض مرتفعة فى الجوار عندما قام السوفيت المتحالفين مع مصر ببناء السد العالى الذى يوفر حاليا 14% من الطاقة الكهربائية فى البلاد.
وقد أدى هذا المشروع إلى تهجير 60 ألف نوبى، الذين تركوا أرضهم على أمل أن يجدوا حياة أفضل، لأن النوبة كانت فقيرة. ويشير أدول الذى ألف مجموعة قصصية تحمل عنوان "ليالى القناع" تتحدث عن النوبة القديمة، إلى أن الحكومة كانت قد وعدت أهالى النوبة بالجنة، لكننا اعتقدنا أننا نترك جنة عدن.
لكن هذه الجنة تحولت إلى سلسلة من القرى عددها 30 تم بناؤها على عجل على بعد خمسة أميال إلى الشرق من النيل، وإلى الجنوب من مدينة أسوان... بعض منازل هذه القرى تصدعت أو انهارت. وفى رأى النوبيين، لم يكن قصب السكر والقطن والمحاصيل كافية لتحل محل الفواكه والأسماك التى كانت تميز موطنهم الأصلى.
ولعل البحث عن موطن بعد فترة من التشتت هو سمة مميزة لكثير من الصراعات الدائرة فى الشرق الأوسط. فالأكراد فى العراق يسعون لإثبات أحقيتهم بمدينة كركوك الغنية بالنفط والتى يعتبرونها عاصمتهم، والتى تم نفى عشرات الآلاف منها من جانب الرئيس السابق صدام حسين خلال حكمه الذى استمر 40 عاما . كما أن المواطنين الأكراد فى سوريا وتركيا يريدون العودة إلى أجزاء معينة فى كل من الدولتين بعد أن تم طردهم منها، بسبب ما تصفه السلطات بالأسباب الأمنية الناجمة عن الحرب الأهلية. والفلسطينيون يطالبون بحق العودة لأماكن موجوددة داخل إسرائيل والتى تركوها خلال حرب 1948.
ووفقا لتقرير صادر عن مركز مراقبة التهجير الداخلى، وهو مجموعة مقرها مدينة جنيف بسويسرا، تهتم بتتبع حركات اللاجئين، فإن الصراعات الحديثة فى العراق واليمن والجزائر ولبنان دفعت ملايين السكان لترك موطنهم. أما أهالى النوبة الذين يقدر عددهم بحوالى 3 ملايين شخص من إجمالى سكان مصر الذين يتجاوز عددهم 73 مليون نسمة، فقد تركوا أرضهم فى وادى النيل لأكثر من قرن، البعض تركها بسبب الفقر، والبعض الآخر بسبب الجهود المبذولة للتحجيم من الفيضانات السنوية للنهر.
وقد بدأت الحملة المطالبة بعودة النوبيين إلى ضفاف النيل مرة أخرى فى وقت قريب. حيث أثار الكاتب حجاج أدول الجدال عام 2005 عندما تحدث إلى مجموعة من أقباط المهجر فى واشنطن وشبه ما يحدث لأهالى النوبة بعمليات التطهير العرقى. وقال أدول إنه تحدث بشكل حاد لأن الحكومة تخطط لتوطين أهالى شمال مصر على طول بحيرة ناصر، دون الإبقاء على أماكن للنوبيين.
