محمد بشير المطرب الجنوبى الذى عشق التراث، وجاب به قرى أسوان وكثيراً من محافظات صعيد مصر حتى استقر به الحال فى قاهرة المعز، وباتت أروقتها وأزقتها التى يجتمع فيها صغار المثقفين والكبار منهم على صوت بشير حين يغنى نعناع الجينية الأصلية، أو يغنى أشعار ابن عروس، وتواشيح الشيخ نصر الدين طوبار بجامع الحسين، والمداح الشيخ عبد اللطيف عبد الفتاح فى أسوان، أهلة صوت الملك محمد منير لينطلق روحاً جديداً لأصالة الصعيد وروعة تراث الأرض السمراء.
ملامحه الصعيدية تبرز بوضوح حين يطل عليك بابتسامته الطفولية فتتذكر بكار، تخفى عيناه الضيقتان ذكاء وبراءة الحلم الجنوبى فى حمل أجمل كلمات التراث والفلكلور الشعبى. جسده النحيل يخبرك دائما عن عنفوان شبابه، وأيام القاهرة الهزيلة، والتى طالما كان يرتوى منها فى ظمأ ليل القاهرة الحزين، فكثيراً ما كان يجلس بشير فى أحد أزقة المقاهى بوسط البلد على التكعيبة، وزهرة البستان، وافتر إيت يحتسى الصبر ويذيبه بمواويل ابن عروس، ويلتف حوله أصدقاؤه يتمايلون مع نغمة صوته بلا آلة عزف، تسحرهم لكنته الأسوانية، فيمتزجون معها روحاً وصوتاً.
كثيراً ما كان يقضى بشير وقته فى أسوان لجمع الفلكلور وحضور الليالى الصعيدية، والتسجيل مع المداحين والمغنيين، وكان يركز على الأغانى فى ثلاث محافظات أسوان وقنا وسوهاج "علشان هيه دى اللى فيها روح حواديت الصعيد وحياته" كما يقول.
من الفلكلور الصعيدى بصفة عامة يستمد "بشير" أغانيه, وخصوصاً أغانى الكف الأسوانى الخاص بقبائل معينة مثل الجعافرة والعبادلة، والنميم "فن مثل فن المربعات ومنه أغنية نعناع الجنينة"، فهو لا يقدم الفلكلور كما هو، بل تجده منحازاً إلى اختيار الأصعب منه، يقول "كان تحدينا الأول أننا نشتغل على الفلكلور بروح مختلفة، لو نقلت الأغانى الصعيدية بشكلها نفسه فى بيئتها مفيش حد هيسمعنا فى القاهرة، إحنا عايزين نقدمها بشكل يوصل لأى حد ولكل الناس، عاوزين البلد كلها تغنى صعيدى".
وفن "الكف" فى الصعيد يقوم على فكرة "الكلمة "وليس على الموسيقى، فيكون تركيز المستمعين والحضور على الكلام الذى يقال، والذى يتناول مواضيع المجتمع ومشاكله وأحداثه فى مصر والمنطقة العربية، لكن القاهرة لا تقنع بهذا، لوجود هذا الكم الهائل والمنوع من الثقافات فيها من الصعيد والوجه البحرى والدلتا والأقاليم، وما يحمله الأجانب والعرب من ثقافات أيضاً وانفتاح ذلك كله على العالم، لذا كان الطريق أمام بشير صعباً، وكان السؤال الدائم له "كيف تقدم نفسك وسط هذه الثقافات المختلفة مع المحافظة على روح الفلكلور، وكيف تقدم تفاصيلك الخاصة، وأنت تحمل الروح المصرية والإنسانية بصفة عامة" ؟!
تساؤل بشير قاده بالفعل إلى "السكة التى وجد فيها نفسه" فقدم إحدى أغنياته التى اشتهر بها "آمنة" من كلمات الشاعر القناوى سمير سعدى وتقول كلماتها:
"وقت ما غلبنى الشوق
وحنيتلك يا آمنة
فكيت الجلوع .. حامت
مراكبى العايمة
ريتك سجر حنة
مروى ندى الجنة
قلبك ونس
صوتك همس
بجناحه طار واتمنى
يلقاكى فى حضينه بيوت
سلامة وسالمة
واااااااااااه
يآمنة"
"آمنة" هو النموذج الذى يغنيه بشير، محملاً بطابع الفلكلور، الذى يصل بسهولة ويسر للمتلقى، ناقلاً أكبر قدر ممكن من المشاعر الإنسانية "الفن لما تقدمه فى مكانه هيكون مناسب بتفاصيله، لكن لما تنقله لمكان تانى لازم توصل للثقافات الجديدة، ولما تقدم لهجتك لازم تقدمها بشكل موسيقى مناسب علشان يقبلوه، ده اللى بحاول أعمله مع الموزع محمد عمر بالتعاون مع الموسيقيين فادى بدر ومحمد سامى".
توليفة من الموسيقى العالمية يحاول بشير تقديمها، تعاون جديد بينه وبين الموسيقى "أبو زر" من السودان لأنه يرى أن الفلكلور العالمى بأكمله فى حالة تماس، لأنه منتج شعبى يتحس بسهولة فى أى مكان ومن أى حد، وهو يقوم حالياً بالتجهيز للسى دى الأول الذى سيتم تصوير إحدى أغانيه.
شهرة بشير الأسوانى لا تتجاوز محيط المثقفين، لكنه مع كل حفلة يفتح لنفسه مساحة جديدة وعدداً أكبر من الجمهور، تجده معروفاً فى ساقية الصاوى، ودار الأوبرا، وبيت الهراوى وفى وسط البلد، كما شارك فى حفلات خاصة باليونسيف، والأمم المتحدة، بجانب الغناء فى المراكز الثقافية الأجنبية المركز الثقافى الألمانى والروسى والفرنسى، لكن فكرة الجماهيرية لا تشغله كثيراً بقدر ما يشغله فنه، "أنا من البداية مرضتش اختار جمهور جاهز أغنى له بالطريقة اللى بيحبها، قررت إنى ما أعملش حاجة بمعايير السوق وبس, أنا حبيت أن جمهورى يحبنى علشان بغنى بالطريقة الخاصة بيا، ومش هدفى إنى أتعرف وبس ولكن من المهم جداً إنى أتعرف بالفن ده وبالثقافة دى، لأنها مساحتى اللى بتكبر فيها قيمتى، ولأنها حالة حقيقية عايز أعيشها طول الوقت ابنيها، لا تصنع فجأة أو مصادفة".
المشاركات المهمة على خشبة المسرح أضافت إليه الكثير، بدأت بغناء أغنيات مسرحية "خالتى صفية والدير" والتى عرضت على مسرح الهناجر 1998، ومسرحية ناس النهر 1999، ومسرحية نوبة دوت كم، وفيلم "وسط البلد" أغنية "نعناع الجنينة"، ولكن الأغنية التى تسببت فى شهرته فى فيلم "أنت عمرى" عام 2002 كانت أغنية "بتميل" والتى يراها علامة فارقة فى مشروعه الغنائى.
الحياة فى منزل بشير فى القاهرة صورة طبق الأصل منها فى منزله بمركز إدفو فى أسوان، شكل معيشته وترتيباتها، لهجته، لا شىء تغير أو تأثر بالقاهرة، "عدم تأثر أهلى بثقافة القاهرة لا يعنى انغلاقهم على ثقافتهم، وإنما يعنى حبهم لثقافة يحترمونها ويقدرونها ويتمسكون بها".
بشير يعشق القراءة ويهتم بها لأنه يراها تمنح المغنى صوراً وخيالاً جديداً، يجذبك عندما تستمع إليه وهو يغنى بلهجته الصعيدية، والتى لا تسمعها منه عندما يتكلم إليك بالقاهرية المتقنة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة