لم يبق من الزمن إلا أقل من خمسة أسابيع قبل أن يريحنا بوش الصغير ويستريح إلى الأبد. يبدو من رسالة أيمن الظواهرى الأخيرة إلى باراك أوباما أن القاعدة قد طوت صفحة السيد «دبليو» إلى غير رجعة، ويبدو من سلوك هذا فى الفترة الأخيرة أنه لم يعد له سوى حلم واحد: أن يخرج من البيت الأبيض وفى يده رمح يلوّح به أمام الغوغاء، فوق ذؤابته رأس أسامة بن لادن.
كشفت صحيفة نيويورك تايمز النقاب مؤخراً عن أن وزير الدفاع الأمريكى السابق، دونالد رامسفيلد، كان قد أصدر فى ربيع عام 2004 مرسوماً سرياً يمنح الجيش الأمريكى صلاحيات فريدة، وآلية مرنة لاتخاذ القرار السريع تتيح له شن غارات فورية على ما يوصف بمواقع القاعدة وقياداتها وأفرادها ومريديها خارج ما يوصف بـمناطق النزاع فى العراق وأفغانستان. بعبارة أخرى: فى أى مكان فى العالم. حدد المرسوم بوجه خاص أكثر من دستة من الدول المشتبه بها، من أهمها سوريا واليمن والصومال، إضافة إلى دولتين من أهم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية فيما تصفه بالحرب على الإرهاب هما باكستان والمملكة العربية السعودية.
يأتى هذا الكشف فى أعقاب «غزوة» أمريكية على منطقة البوكمال شرقى سوريا قبيل نهاية الشهر الماضى راح ضحيتها ثمانية مدنيين، وسلسلة من الغزوات على إقليم وزيرستان شمال غربى باكستان راح ضحيتها أضعاف هذا العدد. تكثفت هذه الغزوات بصورة ملحوظة فى الفترة الأخيرة فيما يبدو محاولة يائسة من جانب الإدارة الأمريكية لتقديم قربان أخير إلى مريديها قبل رحيلها فى يناير القادم.
الساخرون من إدارة بوش (و هم كثر) سيقولون: وما الجديد؟ أليست هذه هى الإدارة التى اخترعت برنامج الترحيل غير العادى واستحلت حرمات الدول والأفراد؟ أليست هى التى كذبت من بين أنيابها عندما ربطت العراق بالقاعدة حتى على كبار أعضائها الذين لديهم بعض الحياء؟ أليست هى التى ارتكبت الفواحش والقاذورات فى أبو غريب وجوانتانامو؟ ما الجديد؟ أما هؤلاء الأكثر سخريةً فسيقيمون العلاقة بين بوش الصغير الذى أتانا قبيل نهاية الألفية الثانية ولويس الرابع عشر الذى أتى الفرنسيين فى القرن السابع عشر. أيامها أطلق هذا الأخير صيحته الشهيرة: «Je suis letat. Letat cest moi» (أنا الدولة والدولة أنا)، واليوم يطلق ذلك الصغير لسان حاله: «I am the world. The world is I» (أنا العالم والعالم أنا).
فى هذه الأثناء يغيب زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، عن الأنظار. تماماً. لا حس ولا خبر. يغيب عن الأنظار فى وقت كان عادةً يملؤه صخباً وشرائط وبيانات. هذه المرة، خيّب بن لادن أمل اليمين المتطرف فى أمريكا فالتزم الصمت عشية الانتخابات الرئاسية، ولا يزال يلتزم الصمت غداتها. لماذا إذن يقرر الرئيس الأمريكى فجأة أن «يجر شكَل» زعيم القاعدة؟
ثمة فجوة عميقة بين تحليلات الخبراء (غير الحكوميين) المهتمين بأمر القاعدة فى أمريكا وغيرها من ناحية، وتصريحات المسئولين وأفعالهم من ناحية أخرى. الطرف الأول يحرص على التمييز بين القاعدة كمنظمة والقاعدة كفكرة، ويخلص فى معظمه إلى نتيجة أنه تم إلى حد بعيد تحييد القاعدة بالمنظمة. والطرف الثانى يضع البيض كله فى سلة واحدة دون تمييز، وهذه إحدى علامات الجهل أو الغرور أو كليهما معاً.
يتوجه مدير وكالة الاستخبارات المركزية، سى آى إيه، بولائه المباشر إلى الرئيس الأمريكى؛ فهذا هو الزبون الأول تنظيمياً لمنتجات الوكالة. قبل حوالى ثلاثة أسابيع اعترف مديرها الحالى، مايكل هيدين، بأن أسامة بن لادن صار «مجرد اسم على رأس القاعدة» فى إشارة إلى عزلة قارصة فى جبال وزيرستان التى يعتقد كثيرون أنه يختبئ فى بطنها. لكنه فى الوقت نفسه يضيف أنه «على عكس بعض التخمينات الصحفية أؤكد لكم أن اقتناص بن لادن يقع على قمة أولويات السى آى إيه».
غير أن عدد هؤلاء الذين هم على استعداد لتقديم أرواحهم فداءً لبن لادن، خاصةً فى ذلك القطاع من العالم، أكبر بكثير من عدد هؤلاء الذين هم على استعداد لتقديم قهوة الصباح للسيد بوش الصغير. لهذا يكشف لنا مدير وكالة الاستخبارات المركزية ملفاته فيقول إنه «فى عالم اليوم، ثمة خيط أو آخر يربط كل تهديد إرهابى رئيسى تعلمه وكالتى بالمناطق القبلية، سواءٌ كان هذا الرابط قيادةً أو سيطرةً أو تدريباً أو توجيهاً أو تمويلاً.. ثمة خيط».
ولأن كثيراً من الأمريكيين مغرمون بشخصيات سوبرمان ورامبو والرجل الأخضر، فإنهم يميلون إلى شخصنة مفاهيم الخير والشر والعدالة والظلم واختزالها أحياناً فى صورة رجل واحد «إما معنا أو مع الإرهابيين». وهى قيمة فى الثقافة الأمريكية دائماً ما تجد فيها دوائر بعينها جنة فسيحة لاقتياد الشعب الأمريكى من أنفه نحو أجندة بعينها. هذه الأجندة تختلف معطياتها من موقف لآخر وإن كان رابط بعينه يجمعها جميعاً: تجنب مناقشة السياسة الخارجية عن طريق شخصنة الأمور.
الطريف أن باراك أوباما، الذى سيرأس العالم للسنوات الأربع القادمة على الأقل، هو الذى يقدم التبرير لضرورة بقاء زعيم القاعدة على قمة الأولويات؛ فهو يعتقد فى حديثه الأخير لشبكة سى بى إس أن «اعتقال بن لادن أو قتله مسألة حاسمة لمحو القاعدة من الوجود لأنه ليس رمزاً وحسب بل إنه أيضاً قائد العمليات فى منظمة (لا تزال) تخطط للهجوم على أهداف أمريكية». يرفع أوباما سقف الوعود الانتخابية فيعد فى خطابه المهم قبل نهاية العام الماضى عن سياسته الخارجية بأنه «إذا توفرت المعلومة الاستخبارية عن أحد الأهداف الإرهابية رفيعة المستوى ولم يتحرك الرئيس الباكستانى فسنتحرك نحن».
بعبارة أخرى، لا فرق كبيرا بين بوش الصغير وأوباما، الأول فيما يتعلق بمدى «شرعية انتهاك» القوانين الدولية وسيادة الدول المستقلة، على الأقل فيما يتعلق بهذه النقطة. ومما يبدو فإن أهمية تناول هذه المسألة بهذه الطريقة تدفع أوباما دفعاً إلى ضرورة الإعلان عن ذلك صراحةً، ولا يوجد لدينا سبب للتشكيك فى هذا المنحى، خاصةً على ضوء التزامه بسحب القوات الأمريكية من العراق لتعزيز أخواتها فى أفغانستان. وسوى احتمال أن تتحول أفغانستان للمرة الثانية فى أقل من نصف قرن إلى القشة التى قصمت ظهر دولتين عظميين، وهو احتمال وارد، فإن ثمة سؤالاً أصغر لكنه أكثر إلحاحاً فى هذا الوقت: هل يتخلى بوش الصغير لأوباما الأول عن رأس بن لادن؟ ومن الذى يقرر ذلك؟
يفترض السؤال لأول وهلة أن زعيم القاعدة قابع داخل طبق من فضة لا حول له ولا قوة بين أيدى الأمريكيين، وهو ما ليس صحيحاً تماماً. لكنه أيضاً ليس من غير الصحيح أن دوائر بعينها فى الغرب، وخاصةً فى أمريكا، لا تعارض إن لم تكن تدعم عملياً سياسة مد أمد ما يوصف بالحرب على الإرهاب. هؤلاء هم أكثر خلق الله حرصاً على سلامة أسامة بن لادن، لا حباً فى معاوية بل لغرض فى نفس يعقوب.
لسوء حظ زعيم القاعدة، رغم ذلك، أن شوكة هؤلاء لم تعد على نفس الدرجة من الحدة لأسباب كثيرة تحتاج إلى تحليل آخر. فيما يحدث هذا تتواتر الغزوات الأمريكية على مظان أسامة بن لادن وإخوانه والذين معهم، وتنتشر فى بيشاور وحولها أمشاط الكبريت التى تحمل صورةً وقورة للرجل ووعداً بأن أمريكا ستدفع 25 مليون دولار مقابل أى معلومة تقود إلى الطريق إليه.. أى معلومة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة