أريد أن أقول بكلمة واحدة إننا سلبيون، وموقفنا من التاريخ ليس مجرد موقف من الماضى الذى انقضى، ولم نعد قادرين على أن نضيف إليه شيئا أو ننقص منه شيئا، وإنما هو موقفنا من الحاضر الحى أيضا أمس، أتيح لى أن أطلع على وثيقة من أطرف الوثائق وأخطرها فى تاريخنا الثقافى الحديث، وهى رسالة شخصية كتبها الشيخ على عبدالرازق وأرسلها لصديقه الدكتور طه حسين الذى احتفظ بها حتى وصلت إلى الدكتور محمد صابر عرب رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية ضمن ما وصل إليه من رسائل الأستاذ العميد ومذكراته التى ينهض فى هذه الأيام بدراستها ونشرها مع ما ينهض بدراسته ونشره من وثائق تاريخنا الحديث.
ونحن لا نكاد نعرف من تاريخنا الحديث إلا أسماء متفرقة من أسماء زعمائه، وحوادث متفرقة من حوادثه لا نربط بينها لنراها فى تسلسلها، ولا ننظر وراءها لنعرف أسبابها، ولا أمامها لنتتبع نتائجها، وهكذا يتحول تاريخنا الوطنى إلى حوادث تنسب للأفراد أو للأقدار أو للقوى الخارجية أو للصدف، ولا تنسب لنا، فهو إذن لا يخصنا ولا يعنينا.
ونحن إزاءه متفرجون لا نراجعه، ولا نتحمل مسئوليته، ولا نصحح مساره، وإنما ننتظر من الأقدار والمصادفات والقوى الظاهرة والخفية لاعبين جددا ينزلون إلى الساحة ليستأنفوا صراعاتهم ويرسموا لنا حاضرنا ومستقبلنا الذى لم نختره، ولم نتعب فى الوصول إليه، وإنما نتقبله فقط كما تقبلنا الحاضر والماضى، وهذه هى النتيجة المأساوية لأسلوبنا فى قراءة التاريخ وفى دراسته.
التاريخ بالنسبة لنا حكايات نتسلى بقراءتها أو روايتها كما نفعل أمام المسلسلات التى نتسلى بمشاهدتها، وكما نتفرج على حوادث الماضى ونتسلى بمتابعتها نتفرج أيضا على حوادث الحاضر وبالتالى على حوادث المستقبل.
أريد أن أقول بكلمة واحدة إننا سلبيون، وموقفنا من التاريخ ليس مجرد موقف من الماضى الذى انقضى، ولم نعد قادرين على أن نضيف إليه شيئا أو ننقص منه شيئا، وإنما هو موقفنا من الحاضر الحى أيضا، من فعل الإنسان ودوره ومسئوليته عن عمله، ومما يستشعره من الحرية إزاء الاحتمالات المختلفة والخيارات المتعددة، وبما أننا لسنا أحرارا ولسنا مختارين، فالتاريخ بالنسبة لنا جبر لا اختيار.
من هنا تأتى أهمية المشروع الذى تنهض به دار الكتب وخطورته، إنه يملأ فى وعينا الفجوات الواسعة الموجودة بين الحوادث بما يقدمه من بحوث وتحقيقات تتتبع الأثر وتمضى وراءه إلى بداياته أو نهاياته، وبما يقدمه خاصة من الوثائق المجهولة والمذكرات التى لم يكشف عنها من قبل، لأنها تراث فردى، أو لأنها تخص شخصيات تعد من الشهود ولا تعد من الزعامات التى صنعت التاريخ.
الوثيقة دليل قاطع على أن التاريخ من صنع الإنسان.
مثلا هذه المذكرات التى تركها لنا إبراهيم فوزى باشا، وهو ضابط مصرى خدم فى السودان طوال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تلك السنوات الملتهبة التى اشتعلت فيها الثورة المهدية فى السودان والثورة العرابية فى مصر، وانتهت باحتلال الإنجليز للبلدين، هذه المذكرات التى نشرت لأول مرة فى أوائل القرن العشرين على نفقة صاحبها، ثم نشرتها أخيرا دار الكتب مع تقديم للدكتور عبدالوهاب بكر لا تكشف لنا سودان القرن التاسع عشر فقط، وإنما تكشف لنا أيضا سودان القرن العشرين والقرن الحادى والعشرين، لأنها لا تقدم لنا الحوادث فحسب، بل تقدم معها الأوضاع والمصالح والتقاليد التى صنعت حوادث الماضى ومازالت رغم كل التطورات التى عرفها السودان تصنع حوادث الحاضر أو تسهم بنصيب فى صنعها.
ونحن نقرأ مذكرات إبراهيم فوزى فنرى كأن النميرى انبعاث جديد للمهدى، وكأن الترابى وجماعته استمرار للتعايشى وجماعته الدراويش، وكأن السودانيين لم يغادروا ما كانوا فيه قبل قرن أو قرن ونصف، بل كأن هؤلاء المشعوذين الذين زعموا أنهم يتلقون الوحى من الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينتصروا فى السودان وحده، بل وجدوا لهم أيضا أنصارا فى مصر!
نحن نقرأ هذه المذكرات التى سماها صاحبها «كتاب السودان بين يدى غوردون وكتشنر» فنسأل أنفسنا: ما هذا الذى يحدث؟ وكيف صرنا إلى ما صرنا إليه؟
وقبل أسابيع قليلة صدرت عن دار الكتب أيضا مذكرات أخرى لا تقل خطورة وأهمية، هى مذكرات حسن أفندى توفيق العدل، أو رحلاته وسياحاته فى ألمانيا وسويسرا خلال السنوات ذاتها التى عاشها إبراهيم فوزى فى السودان.
إبراهيم فوزى يقدم لنا العالم من حيث رآه فى جنوب الوادى الذى كان لايزال فى ذلك الوقت يعيش خارج العالم أو خارج الحضارة الحديثة، حسن أفندى العدل يقدمه لنا من القلب أو من مركز متقدم من مراكز حضارته، والأول يرى العالم بعيون القائد العسكرى، والأخير يراه بعيون المثقف الذى اختارته وزارة المعارف المصرية عام 1887 ليدرس اللغة العربية وآدابها فى جامعة برلين.
والقصة طويلة يجب أن تقرأ بتفاصيلها لنعرف كيف تخرج بطلها على شيوخ الأزهر وهو فى العشرين من عمره مشهود له بالنبوغ فى علوم اللغة، وكيف تعلم الفرنسية فى مصر، ثم سافر إلى برلين فلم تمض على وصوله إليها ستة أشهر حتى كان يتكلم الألمانية ويتصل بحياة الألمان على النحو الذى مكنه من أن يقدم لنا عن برلين شهادة تكمل شهادة الطهطاوى عن باريس.
إنها إرهاصات النهضة التى كان اكتشاف العالم واكتشاف أوروبا خاصة شرطا من شروطها، الطهطاوى فى «تخليص الإبريز» ومحمد أمين فكرى فى «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا»، والشيخ عياد الطنطاوى الذى ذهب إلى روسيا ليعلم العربية فى جامعة بطرسبرج، وأحمد زكى، والمويلحى، وسواهم ممن أتيح لنا أن نعرف عنهم الكثير، ولم يتح لنا أن نعرف أى شىء عن حسن العدل حتى ظهر هذا الكتاب الذى أعده عبدالمنعم محمد سعيد، وقدم له الدكتور محمد صابر عرب بدراسة عن حسن العدل وعن مؤلفاته، لكن هذا كله كان مقدمة طالت لرسالة الشيخ على عبدالرازق إلى عميد الأدب التى سأخصها بحديثى القادم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة